السنوار
كتب: محمد أبو زيد
لو أن رجلًا في غزة كان يلح على الله في
الشهادة، فلن يكون هناك أكثر استحقاقًا لهذا الشرف من درة الشهداء يحيى السنوار.
ففي لقاء
عُقد قبل سنوات مع مجموعة من الإعلاميين في غزة، سُئل السنوار عن تهديدات إسرائيلية
متكررة لاغتياله، حيث كان هو ومحمد الضيف على رأس قائمة الاغتيالات الإسرائيلية العلنية
للمرة الرابعة.
كان السؤال واضحًا: ألا تخشى من أن تغتالك إسرائيل؟ وجاء رد السنوار
الذي هز القلوب وسيخلده التاريخ: "أكبر خدمة يقدمها لي العدو أن يغتالني، فألقى
الله شهيدًا”.
السنوار، الذي تجاوز سن التاسعة والخمسين
حينها، لم يكن يرى في الحياة بعد الستين سوى عبور نحو الآخرة، لكنه فضل أن يكون ذلك
العبور مشرفًا ومغمسًا بدماء الشهادة، قائلًا: "أنا أحب أن أُقتل بطائرات الـ
F-16 بدلًا من أن أُقتل بفيروس كورونا
أو بأي مرض آخر. أنا لا أحب أن أموت بجَلطة أو سكتة قلبية؛ بل أحب أن ألقى الله شهيدًا
بدلًا من أن أموت فطيسًا”. هذه الكلمات، التي خرجت من قلب رجل تربى في ساحات المقاومة،
ليست مجرد تعبير عن رغبة شخصية، بل هي انعكاس لفلسفة أعمق تتجسد في فكر السنوار وتوجهه
السياسي والنفسي.
شجاعة السنوار
وفروسيته
يحيى السنوار ليس مجرد قائد عسكري، بل رمز
لشجاعة استثنائية وفروسية فريدة. فهو الذي خرج من سجون الاحتلال بعد سنوات من العذاب
ليعود إلى ساحة المعركة بروح لا تنكسر وعزيمة لا تضعف. رفض السنوار أن يعيش حياة القادة
المتخمين بالترف، بل اختار البقاء بين أبناء شعبه، في قلب غزة المحاصرة، يشاركهم الخوف
والجوع والأمل.
شجاعة السنوار ليست شجاعة اللحظة فقط، بل
هي نتاج رحلة طويلة من النضال والمقاومة. منذ أيامه الأولى في صفوف حماس، وحتى توليه
قيادة الجناح العسكري للحركة، لم يختبئ السنوار وراء ألقاب أو مواقع محصنة. بل كان
دائمًا في الصفوف الأمامية، يوجه ويرسم خطط المقاومة، متمنيًا أن يأتي يوم يغتاله فيه
الاحتلال ليصبح شهيدًا. هذه الشجاعة ليست نابعة فقط من إيمانه القوي بالمقاومة، بل
من إيمانه الأعمق بأن الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت في سبيل الله.
تحليل نفسي
لشخصية السنوار
السنوار شخصية تجمع بين البساطة والقوة.
فهو يعيش حياته كجندي، يتجنب البهرجة والظهور الإعلامي المفرط، مفضلًا العمل على الأرض
بصمت وفاعلية. هذه الشخصية المتزنة تجمع بين التواضع العميق والإيمان الراسخ بأن الشهادة
هي أعلى درجات التكريم.
السنوار يظهر كرجل لا يخشى الموت، بل يتطلع
إليه، لأنه يرى في الشهادة تحريرًا من كل قيود الحياة. وبالرغم من حياته المليئة بالصعاب
والتهديدات، إلا أنه لم يظهر أبدًا علامات الخوف أو التردد. على العكس، كانت تهديدات
العدو تزيده قوة وإصرارًا على مواصلة النضال.
من الناحية النفسية، يبدو أن السنوار قد
وصل إلى حالة من التصالح الكامل مع فكرة الموت. وهذا التصالح يمنحه شجاعة نادرة تجعل
خصومه يحسبون له ألف حساب. فهو يعلم أن حياته ليست ملكًا له، بل ملكًا لشعبه وقضيته،
ولا يرى في الموت سوى محطة في طريق أطول نحو تحقيق التحرير.
تحليل سياسي
لخطاب السنوار
خطاب السنوار السياسي متماسك وواضح. هو لا
يتحدث عن أهداف صغيرة أو مؤقتة، بل عن مشروع تحرير شامل يضع فلسطين في قلبه. السنوار
لا يرى في الاحتلال قوة لا تُقهر، بل عدوًا يخشى المقاومة أكثر مما تخشاه المقاومة.
وهذا ما يظهر في تهديداته المستمرة للعدو الإسرائيلي، حيث لا يتردد في توجيه رسائل
قوية وصريحة تفيد بأن غزة لن تسكت عن أي عدوان.
استراتيجية السنوار تقوم على الجمع بين القوة
العسكرية والصمود الشعبي. فهو يعلم أن إسرائيل تمتلك قوة عسكرية هائلة، لكن هذه القوة
لا تستطيع قهر إرادة شعب يؤمن بأن المقاومة طريقه إلى الحرية. لذا، فإن خطابه يستمد
قوته من قناعة راسخة بأن النصر في النهاية سيكون حليف الشعوب التي تتمسك بحقها في التحرير،
مهما طال الزمن.
في النهاية، يحيى السنوار ليس مجرد قائد
عسكري، بل رمز لمقاومة لا تموت، وشجاعة لا تعرف الانكسار. جملته "أفضل أن أقتل
شهيدًا ولا أموت فطيسًا" ستبقى محفورة في ذاكرة التاريخ، لأنها ليست مجرد كلمات،
بل عقيدة عاش بها ومات من أجلها.