رئيس مجلس الادارة: نجلاء كمال
رئيس التحرير: محمد أبوزيد
advertisment

مختار محمود يكتب.. ما استحق أن يولد مَن لم يعِشْ لنفسه!

المصير

الثلاثاء, 24 سبتمبر, 2024

02:01 م

يردد بعضنا في حماسة مفرطة تلك العبارة: "ما استحق أن يولد مَن عاش لنفسه فقط". تحمل هذه الكلمات الخالدة مزيجًا من الإنسانية والإيثار وحب الأغيار. ربما كان لها مبررها عندما قالها صاحبها في عقود سابقة، ورددها من بعده غيرُه في سذاجة مفرطة. 

من الراجح أنها قيلت وسط أجواء نضالية جهادية..ولكن يبقى السؤال: هل هذا الشعار الحماسي واقعي فعلاً، هل يجب اتخاذه شِرعةً في الحياة ومنهاجًا؟ دعني أقول لك وبكل اطمئنان: "هذه حكمة ساقطة عمليًا، لا تقرب منها ولا تفكر فيها". أصبحنا في زمن مادي شديد القبح، لا مكان فيه لمن يؤثرون غيرهم على أنفسهم، أو كما يقول العامَّة والدهماء: " زمن اخطف واجري"!


أرجوك لا تندفع ولا تنفعل ولا تبذل أدنى مجهود لتكذيبي؛ لأنني سوف أروي عليك واقعتين مختصرتين تثبتان عمليًا سقوط مقولة: "ما استحق أن يولد مَن عاش لنفسه فقط"، وحتمًا بعدها سوف تعيد حساباتك، وترتب أولوياتك، وتنسق قناعات من جديد؛ فالعاقل من اتعظ بغيره؛ وإلا صار مجنونًا بلا عقل..وقبل الشروع في قراء السطور التالية أنصحك إن كنت مريضًا بالضغط أو القلب، أحدهما أو كليهما، أن تتخذ تدابيرك الطبية اللازمة عاجلاً وفورًا.


الواقعة الأولى بطلها مصري طار إلى إحدى الدول الخليجية فور تخرجه.عمل ونجح وحاز ثروة ضمنت له ولأولاده حياة مرفهة. زوجته وأولاده الأربعة لم يعانوا يومًا فقرًا، ولم يحتاجوا شيئًا ولم يجدوه. شيد لهم في مصر بناية سكنية معتبرة. اشترى لهم أكثر من شاليه في مدينة ساحلية. سخر حياته وجميع أمواله لهم ولم يبخل عليهم بأي شيء، أودع لهم حسابات وودائع بنكية، كلٌّ باسمه.


وعندما بلغ الرجل سن التقاعد كان لزامًا عليه أن يعود إلى بيته وأهله ووطنه. ظن أنه أنجز المطلوب منه بنجاح منقطع النظير، وآن الأوان للراحة والهدوء والدعة والسعادة بين زوجته وأولاده وأحفاده. ماديًا..لم يكن الرجل يحتاج من ذويه جنيهًا واحدًا. فقط..كان يريد أن يشعر بعد كل سنوات الغربة والتيه بأنه إنسان. تخيل يا مؤمن أن هذه المكافأة الضئيلة  جدًا حرموه منها، وضاقوا من وجوده ذرعًا، وانفضَّوا سريعًا من حوله، وانشغل كلٌّ منهم بنفسه الأمَّارة بالسوء، وشعر بالوحدة القاتلة، وهو الباحث عن دفء العائلة والأسرة والأبناء. أمام هذا الإحساس المرير..لم يجد الرجل الستيني بُدًا من العودة مرة أخرى إلى الدولة الخليجية.


استغاث بأصدقائه وزملائه القدامي، حتى وفروا لها وظيفة بسيطة في الشركة التي كان يومًا أبرز مسؤوليها. استلم الرجل مهمته الجديدة. كان يأمل أن ينشغل بها عن "صدمة عمره"، ولكن كما خانه الأهل خانته صحته هذه المرة. لم يقوَ الجسد الحزين على تحمُّل تبعات الحصاد المُر، وهل هناك حصاد أمرُّ من ذلك، وسرعان ما انتزع الموت منه روحه الطيبة المسالمة. مات الرجل بعد أقل من شهر على استلامه عمله. 


مات كمدًا وغدرًا وخيانة عظمى..نعم.. وهل هناك أسوأ من تلك الخيانة، ولكن هل انتهت الخيانة عند هذا الحد؟ بالطبع لا..لقد رفض الأولاد استلام جثة أبيهم، وقالوا لزملائه في الدولة الخليجية عندما تواصلوا معه: "لسنا مستعدين لهذا الأمر، لم نشترِ مدفنًا ولا مقبرة..ادفنوه عندكم". ومات المسكين غريبًا ودُفن في غير وطنه..فهل ما زلت مقتنعًا بأنه ما استحق أن يولد مّن عاش لنفسه فقط؟!
قد تقول: إنها واقعة فردية لا يجب أن نتوقف عندها كثيرًا. 


إذن..فلتقرأ تفاصيل الواقعة الثانية التي لا تختلف عن الأولى كثيرًا. بطل هذه القصة الحزينة موظف بترولي كبير طاف العالم، وله علاقات وصداقات دولية. اختار أولاده السفر إلى الخارج والإقامة هناك. 


تزوج الأولاد وأنجبوا واستقروا في "بلاد برة". الزوجة قررت أيضًا هي السفر إلى أولادها ورفضت البقاء في مصر. في المقابل..فإن الأب مرتبط ارتباطًا نفسيًا بوطنه، ولا يجد مبررًا لتركها. ضاق الرجل ذرعًا بالوحدة أيضًا. الإقامة بين جدران أربعة، حتى لو كانت جدران فيللا أو قصر، موحشة على البعض. 


ملّ الوجيه الأمثل من هذه الحياة رغم ثرائه وعدم احتياجه للمال. لا أحد يسأل عليه. أربع سنوات مرت دون أن يتلقى رسالة ودودة من زوجة أو ابن. قطيعة قاتلة ليس لها ما يبررها؛ فالرجل وهب حياته السابقة لهم وصنع كل ما يستطيع من أجلهم. انضم الرجل بسيارته الفارهة جدًا إلى إحدى شركات النقل الحديث. 


يفرح العجوز بـ"الأوردر"؛ ليس بحثًا عن مال أو دخل جديد، ولكن لسبب وحيد فقط، وهو العثور على أنيس يتبادل معه الحديث أثناء الرحلة. يقصر الأب الحزين رحلاته على مناطق و"ضواحي" بعينها؛ ليضمن فئة معينة من العملاء الذين يستطيع أن يتحدث معهم، ويسمعهم ويسمعوه، وأحيانًا يصير أحدهم صديقًا له..وهكذا. يبحث الرجل بعد كل هذا العمر عن أصدقاء جدد يعوضونه عن هجر الأهل والأحباب.


بعد هاتين الواقعتين الحقيقيتين..هل ما زلت مُصرًا على أن تعيش لغيرك وتنسى نفسك. ليست هذه دعوة إلى التخلي عن مسؤولياتك الجسيمة والأساسية تجاه أسرتك وذويك، ولكن إياك وأنت في ذروة هذا النضال وذلك الكفاح، أن تنسى نفسك وتؤلمها من أجل غيرك، أيًا كان هذا الغير. فقط..لا أريدك ان تعاني يومًا مثل ذلك الذي أجبره ذووه على العودة إلى المنفى والموت هناك، ولا مثل ذلك الثري البائس الذي يهيم على وجهه كل صباح؛ بحثًا عمَّن يؤنس وحشته ويخفف آلام وحدته، ولا يعلم أحد كيف سوف تصير نهايته..وفي الأخير..لا تنسَ يا عزيزي أن لنفسك عليك حقوقًا جسامًا، ومن تلك الحقوق ألا تضل بعد سنوات الكفاح والنضال ولا تشقى..حصِّن نفسك من السؤال والمذلة والاحتياج كأنك تعيش أبدًا!