اتبع أبو حامد الغزالي الذي عاش بين عامي 1058-1111 ميلاديًا خلال رحلته الفلسفية منهجًا عقلانيًا يقوم على فكرتين أساسيتين هما: الشك والحدس الذهني، ونلمس ذلك في قوله: “إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريبٌ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم”.
يتحدث "الغزالي" –الذي تحلُّ ذكرى وفاته اليوم- عن محنة الشك ودائرتها التي عاش داخلها قائلًا: “فأقبلتُ بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا”، وهو يفسر ذلك بأنه “من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال”. المنهج الذي اتبعه "الغزالي" قبل أكثر من تسعة قرون يبدو شديد التشابه بما قدمه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي عاش بين عامي 1595-1650 ميلاديًا، وهو ما يعكس تأثر الأخير بالفيلسوف الإسلامي الكبير وأخذه عنه. "ديكارت"، المعروف تاريخيًا بـ"أبي الفلسفة الحديثة"، أسهمت أطروحاته الفلسفيّة -التي ما زالت تُدرّس في المدارس والجامعات حتى يومنا الحالي- في ظهور عدد كبير من نظريات الفلسفيّة الحديثة. وضع "ديكارت" عديدًا من الكتب الفلسفية المهممة، أبرزها: كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى" الذي نشره في العام 1641 ميلاديًا، ويُعتبر حتى عصرنا الحالي المرجع الأساسي لمعظم كليات الفلسفة في العالم.
عاش "الغزالي" و"ديكارت" التجربة المعرفية ذاتها، وإن كان فضل السبق والأصالة يعود للأول؛ فعبارة "الغزالي" الشهيرة: “الشك أول مراتب اليقين” التي أوردها في كتابه “المنقذ من الضلال” هي التي بنى عليها "ديكارت" مذهبه لاحقًا، كما سنرى. خلال حضوره فعاليات المؤتمر العاشر للفكر الإسلامي في "عنابة" بالجزائر في أوائل السبعينيات، قال الباحث التونسي الدكتور عثمان الكعاك: إنه عثر بين محتويات مكتبة "ديكارت" الخاصة بباريس على ترجمة كتاب "المُنقذ من الضلال"، ووجد أن "ديكارت" قد وضع خطًا أحمرَ تحت تلك العبارة، ثم كتب في الهامش: “يُضاف ذلك إلى منهجنا”.
الباحث التونسي -المُتوفَّى في العام 1979- استكمل روايته قائلًا: إن العلَّامة المصري الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة طلب إليه أن يعاونه في عمل بحثي يتوفر عليه "أبو ريدة" بخصوص تأثير حُجة الإسلام أبي حامد الغزالي في الفكر الغربي. ولأنَّ "الكعاك" كان يعمل أمينًا للمكتبة الوطنية، فإنه استطاع –كما يقول- أن يصل إلى مكتبة "رينيه ديكارت"، وفوجئ بنسخة من كتاب "المُنقذ من الضلال" مُترجَمة إلى اللاتينية في مقتنيات الفيلسوف الفرنسي، وبقلم "ديكارت" خطوط تحت أكثر من فكرة من أفكار "الغزالي"، ومكتوب عليها: "يُنقل هذا إلى منهجنا"، ما يعتبر سطوًا صريحًا على فكر "الغزالي"، وهو ما أكده لاحقًا كل من: وزير الأوقاف الأسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت"، والدكتور نجيب محمد البهبيتي في كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين"، حيث أجمعا على أن الفيلسوف الفرنسي قد اقتبس من "الغزالي" الكثير، خاصة من كتابه: "المنقذ من الضلال"! وبحسب عماد الدين الجبوري..فإنَّ كتاب “ديكارت” المُعنوَن بـ"مقال في المنهج" يتضمن تأثيراتٍ واضحةً جدًا من الفيلسوف الفرنسي بمنهجية “الغزالي” في الشك واليقين.