"لو قاتل الجيش السوري لما سقطت أي مدينة بما فيها حلب"، بهذه العبارة الجارحة الفاضحة عَبَّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عن انهيار نظام الأسد، مؤكدًا أن الحلفاء قد تخلو عنه بعد أن فقد جيشه إرادته وقدرته على الدفاع عن النظام وعن الأرض ، وترك آل الأسد لمواجهة مصيرهم المحتوم.
لقد جسد هذا التصريح خلاصة دراماتيكية لسقوط الأسد، الذي حدث بشكل دراماتيكي ومذهل وأسرع مما يتخيله العقل .
الغرور قبل السقوط
قبل أسبوعين فقط، كانت العنجهية والغرور هما المسيطران على خطاب بشار الأسد، رافضًا كل مبادرات الحوار حول الأزمة السورية. كان الأسد يتكئ بثقة زائدة على حلفائه الروس والإيرانيين، غير مبالٍ بالمستجدات التي طرأت خلال العامين الماضيين. هذه المستجدات، التي تجاهلها الأسد، كانت هي العامل الحاسم في تغيير المشهد السوري.كان الأسد يعتقد أنه جالس في الحكم إلي يوم القيامة.
حلفاء مُنهَكون ومشتتون
انغماس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب الروسية-الأوكرانية شكَّل ضربة موجعة للأسد، حيث قلَّ الدعم العسكري واللوجستي الذي كان يوفره بوتين لنظامه. وفي الجهة الأخرى، كانت إيران تواجه مواجهة مفتوحة مع إسرائيل أدت إلى ضربات جوية إسرائيلية متكررة ومؤلمة داخل إيران لأول مرة في التاريخ
أما حزب الله، الذي شكل مع الروس و الإيرانيين خط الدفاع الأول عن النظام السوري قبل الجيش السوري نفسه ، فقد تعرض لهزات عنيفة بعد الحرب الأخيرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، من بينها اغتيال قادة الصف الأول، بما فيهم حسن نصر الله وهاشم صفي الدين وقادة الرضوان ،كل هذه التغيرات جعلت الحزب متكئا على نفسه وغير راغب وغير قادر في تشتيت جبهاته، كما أن الدخول في حرب طائفية مذهبية مرة أخرى وهو يساند غزة وحماس السنية، ويواجه إسرائيل مواجهة غير مسبوقة هي أمور لا تستقيم مع بعضها البعض.
تفاهمات المعارضة المسلحة مع إيران وإسرائيل
في سياق هذه التغيرات، لعبت التفاهمات التي أجرتها المعارضة المسلحة دورًا حاسمًا في تسريع انهيار نظام الأسد. زارت وفود من المعارضة إيران لتقديم ضمانات بعدم المساس بالمزارات الشيعية، مثل ضريح السيدة زينب، مما جعل إيران تغض الطرف عن تحركات المعارضة في بعض المناطق الحساسة. لكن الدور الأبرز كان لإسرائيل، التي استغلت الوضع الهش للنظام السوري لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى.
سعت إسرائيل عبر هذه التفاهمات إلى السيطرة الكاملة على الفضاء السوري ومنع أي تهريب للأسلحة الإيرانية إلى حزب الله عبر سوريا.
لقد مثل سقوط الأسد فرصة ذهبية لإسرائيل للقضاء نهائيًا على أي تهديد مباشر أو غير مباشر من الأراضي السورية. الضربات الجوية المتكررة التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي على مواقع إيرانية وسورية كانت جزءًا من هذه الاستراتيجية الأكبر، التي تهدف إلى ضمان تفكيك كل الطرق اللوجستية التي قد تُستخدم لتزويد حزب الله بالأسلحة.
وبالتزامن، قدَّمت المعارضة المسلحة تطمينات لإسرائيل حول إمكانية تطبيع العلاقات المستقبلية مع سوريا، بما في ذلك فتح سفارة إسرائيلية في دمشق. هذه التفاهمات أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لدعم المعارضة بشكل غير مباشر، أو على الأقل الوقوف على الحياد، مما أضعف موقف الأسد بشكل كبير.
انهيار الجيش السوري: أسباب ودلالات
رغم امتلاك الجيش السوري ترسانة من الأسلحة والمطارات الحيوية، إلا أنه عانى من ضعف شديد في المعنويات والقدرات. رواتب الجنود التي لا تكفي لثلاثة أيام فقط، إضافة إلى نقص الغذاء والإمدادات، جعلتهم في حالة نفسية قريبة من الانهيار. لم يقاتل الجيش هذه المرة، بل انسحب من المعارك وترك أسلحته للمعارضة، مما عكس غياب الحافز للدفاع عن نظام فقد شرعيته.
تزامن ذلك مع غياب الحاضنة الشعبية للنظام، الذي ارتكب فظائع بحق شعبه، بما في ذلك التطهير العرقي والطائفي. هذه الجرائم جعلت من الصعب على النظام أن يجد دعمًا حتى من الأقليات التي كان يدَّعي حمايتها.
بعد 50 عامًا من حكم عائلة الأسد
بعد 12 سنة من القمع والقهر والقتل على الهوية، وسنوات من القتال الداخلي الذي مزق سوريا، سقط بشار الأسد وحكم عائلة الأسد الذي دام 50 عامًا. هذا السقوط لم يستغرق سوى أسبوع واحد فقط، أو 168 ساعة، ليضع نهاية لحقبة طويلة من الحكم بالحديد والنار.
لم يتعرض الأسد للخيانة ولكن لحظة سقوط حكمه تم رسمها بكل دقة في مقرات أجهزة مخابرات عالمية
المشهد الأخير
إن سقوط نظام الأسد بهذه الدراماتيكية يذكّرنا بانهيار نظام الشاه في إيران عام 1979. لم يكن النظام السوري في السنوات الأخيرة سوى "نظام زجاجي" هش، يعيش على الوقت المستقطع. وعندما جاءت لحظة الحقيقة، انهار سريعًا تحت ضغط المعارضة المسلحة وحلفاء كانوا قد اختاروا الابتعاد عنه في اللحظة الحاسمة.
لقد أثبتت الأزمة السورية أن التفاهمات الدولية والإقليمية، إضافة إلى الإرادة الشعبية، يمكن أن تُحدث تغييرًا جذريًا في مصير الأنظمة المستبدة، مهما بدت قوية في الظاهر. ولعل دروس سقوط الأسد تكون عبرة لأنظمة أخرى تعيش في عالم من الغرور والعنجهية، غافلة عن الواقع المتغير من حولها.