لم يكن الفريق أول محمد عبد المنعم رياض مجرد بطل شهيد مثل ملايين الفرسان الذين يضحون بأرواحهم فداء للوطن والواجب المقدس، وإنما هو تجربة ملهمة فى العطاء والإعجاز العسكري الذي جمع بين الخبرة الميدانية والثقافة الواسعة!.
** مقاتل ومناصب!
موهبته كمقاتل عنيد يتمتع بالصلابة والإصرار على الهدف، صعدت به نحو أرفع المناصب وصنعت فى منزله حائط البطولات، إلى أن أصبح رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، ويصنف "رياض" واحدا من أشهر العسكريين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد شارك في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان والإيطاليين بين عامى 1941 و1942، ثم حرب فلسطين عام 1948 والعدوان الثلاثى عام 1956، ونكسة 1967 وحرب الاستنزاف.
** عسكري بالنشأة والوراثة
وتركت نشأته الريفية بصماتها علي شخصيته وأدائه العسكري من حيث الالتزام والنشاط فى العمل، فضلا عن وراثة الجدية والمسئولية من والده العقيد محمد رياض قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية، والذى تخرج على يديه الكثيرون من قادة المؤسسة العسكرية.
** الجنرال الذهبي يخلع بالطو الطبيب
ودرس "رياض" الابن في كتاب القرية وتدرج في التعليم، وبعد حصوله على الثانوية العامة التحق بكلية الطب بناء على رغبة أسرته، ولكنه بعد عامين من الدراسة فضل الزى العسكرى عن بالطو الطبيب، وانتهى من دراسته في عام 1938 برتبة ملازم ثان ، ونال شهادة الماجستير في العلوم العسكرية عام 1944 وكان ترتيبه الأول، ثم أتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات بامتياز في إنجلترا عامي 1945 و 1946، وصقل معرفته وثقافته بإجادة عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وارتفع سقف طموحه العلمي إلى الانتساب وهو برتبة فريق إلى كلية التجارة لإيمانه بأن الاستراتيجية هي الاقتصاد، فاستحق عن جدارة لقب "الجنرال الذهبي"!
** أنواط الواجب وأوسمة الشرف
وطوال مشواره المشرف، حصل على العديد من الأنواط والأوسمة ومنها ميدالية الخدمة الطويلة والقدوة الحسنة ونوط الجدارة الذهبية ووسام الأرز الوطني بدرجة ضابط كبير من لبنان ووسام الكوكب الأردني طبقة أولى ووسام نجمة الشرق.
** انتصارات تفوق الخيال
وبفضل شجاعته وشعلة ذكائه ووطنيته، تحول "رياض" إلى "بعبع" الأعداء، وتحديدا الصهاينة بكل خبثهم ودهائهم .. إلا أن رجل العسكرية المصرية حقق انتصارات عسكرية في المعارك التي خاضتها القوات المسلحة خلال حرب الاستنزاف مثل معركة رأس العش التي منعت فيها قوة صغيرة من المشاة سيطرة القوات الإسرائيلية على مدينة بورفؤاد المصرية الواقعة على قناة السويس، وذلك في آخر يونيو 1967، ونجاحه فى تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات في 21 أكتوبر 1967 وإسقاط بعض الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عامي 1967 و 1968.
** شجاعة وذكاء فى الميدان
وكان رياض يدير الصراع مع العدو الإسرائيلي بمنطق الاستراتيجية الشاملة من خلال وضع البعد الاقتصادي في الحسبان وليس مجرد استراتيجية عسكرية .. ومن أشرف لمساته التاريخية هو إشرافه على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف، خلال حرب الاستنزاف، ورأى أن يشرف على تنفيذها بنفسه، وتحدد يوم السبت 8 مارس 1969 موعداً لبدء تنفيذ الخطة، وفي التوقيت المحدد انطلقت نيران المصريين على طول خط الجبهة لتكبد الإسرائيليين أكبر قدر من الخسائر في ساعات قليلة وتدمير جزء من مواقع خط بارليف وإسكات بعض مواقع مدفعيته في أعنف اشتباك شهدته الجبهة قبل معارك 1973.
** يوم الشهادة لـ "قاهر اليهود"
وفي صبيحة اليوم التالي (الأحد 9 مارس 1969) الفريق أول رياض "قاهر اليهود" أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة ليرى عن كثب نتائج المعركة ويشارك جنوده في مواجهة الموقف، ولم يكن يعلم - أو حتى يبالي بذلك - أنها الدقائق المعدودة الباقية من حياته المجيدة، فقد انهالت نيران العدو فجأة على المنطقة التي كان يقف فيها وسط جنوده واستمرت المعركة التي كان يقودها حوالي ساعة ونصف الساعة إلى أن انفجرت إحدى طلقات المدفعية بالقرب من الحفرة التي كان يقود المعركة منها ونتيجة للشظايا القاتلة وتفريغ الهواء.
توفي عبد المنعم رياض بعد 32 عاما قضاها عاملا في الجيش متأثرا بجراحه، ولكنه ظل راسخا فى أذهان وذاكرة العدو قبل الوطن بصورة "بطل مغوار فريد" زرع الرعب ورعشة الخوف فى "العيون الوقحة"، وجمد الدماء فى "العروق الدنسة" .. وعاشت كلماته الخالدة حينما قال :"لاأصدق أن القادة يولدون، إن الذي يولد قائدا هو فلتة من الفلتات التي لا يقاس عليها كخالد بن الوليد مثلا، ولكن العسكريين يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة .. والقائد هو من يملك القدرة على إصدار القرار في الوقت المناسب وليس مجرد القرار"!.