كتب :محمد أبوزيد
في خطوة تحمل أبعادًا جيوسياسية معقدة، نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إبرام مصالحة تاريخية بين إثيوبيا والصومال، وهي خطوة تبدو، في ظاهرها، مبادرة لإحلال السلام، لكنها تحمل في طياتها أبعادًا تنافسية واضحة ضد الدور المصري في المنطقة. تأتي هذه التحركات في وقت حساس، حيث تعيد مصر بناء نفوذها الإقليمي في مواجهة التهديدات المتصاعدة، لا سيما من إثيوبيا التي تمثل سد النهضة أكبر تهديد استراتيجي لمصالحها المائية على مدار العقود الماضية.
المصالحة الإثيوبية-الصومالية: مناورة تركية ضد مصر
لطالما كانت الصومال ساحة نفوذ مهمة لمصر في إطار استراتيجية تطويق التهديدات الإثيوبية. فمصر، التي أبرمت اتفاقيات دفاعية مع الصومال وأرسلت قوات عسكرية لتعزيز موقف مقديشو ضد أي تهديد إثيوبي، كانت ترى في دعمها للصومال فرصة استراتيجية لإضعاف التحركات الإثيوبية. خاصةً بعد سعي إثيوبيا إلى الاعتراف بـ"جمهورية صومال لاند" ككيان مستقل، بهدف تحقيق منفذ على البحر الأحمر، وهو ما رفضته كل من الصومال ومصر.
تحركات أردوغان الأخيرة، من خلال المصالحة بين إثيوبيا والصومال، ليست فقط محاولة لتقويض النفوذ المصري، بل هي ضربة مباشرة لتحركات القاهرة في المنطقة، التي كانت تهدف إلى استخدام الصومال كورقة ضغط استراتيجية ضد أديس أبابا. هذه المصالحة، التي جاءت بدعم تركي كامل، تبدو خارج نطاق الاهتمام التقليدي لتركيا في آسيا وأوروبا، ما يطرح تساؤلات حول أهداف أردوغان الحقيقية من التمدد في مناطق النفوذ المصري.
التطبيع المصري-التركي: عودة المياه إلى مجاريها؟
بعد عقد كامل من التوتر بين القاهرة وأنقرة، شهدت العلاقات المصرية-التركية انفراجة كبيرة، بدأت بتطبيع العلاقات الدبلوماسية وانتهت بتبادل الزيارات الرئاسية بين أردوغان والسيسي. لكن هذا التطبيع، على الرغم من أهميته، لا يلغي التنافس التاريخي بين البلدين، خاصة مع استمرار تركيا في توسيع نفوذها في مناطق تعتبرها مصر جزءًا من مجالها الاستراتيجي.
أردوغان، الذي كان من أشد المنتقدين لثورة 30 يونيو وعودة النظام المصري بقيادة الرئيس السيسي، يسعى اليوم للظهور كشريك سياسي لمصر. ومع ذلك، فإن تحركاته الإقليمية تشير إلى أن الطموح التركي لم يتغير؛ فبينما تُظهر أنقرة وجهًا دبلوماسيًا ودودًا، تستمر في ممارسة سياسات تعارض النفوذ المصري في الشرق الأوسط وإفريقيا.
أردوغان وسوريا: تحركات مناهضة لمصر
لم تكن سوريا بمنأى عن التدخلات التركية التي قادت إلى أكبر كارثة سياسية وعسكرية في تاريخ الدولة السورية. فقد وقفت تركيا وراء دعم المعارضة المسلحة ضد نظام بشار الأسد، وهو ما أدى إلى انهيار النظام السوري ودخول البلاد في فوضى عارمة. هذا الانهيار مهّد الطريق لأكبر حملة عسكرية إسرائيلية في تاريخها ضد الجيش السوري، حيث دمرت تل أبيب بشكل شبه كامل القدرات العسكرية لسوريا، ما أخرجها فعليًا من معادلة التوازن الإقليمي.
بالنسبة لمصر، يمثل انهيار سوريا ضربة كبيرة لدورها الإقليمي، إذ كانت سوريا حليفًا تاريخيًا للقاهرة في مواجهة التحديات المشتركة، بما في ذلك التهديدات الإسرائيلية. لكن التدخل التركي في سوريا، إلى جانب دعمه غير المعلن للجماعات المسلحة، ساهم في تحويل دمشق إلى ساحة صراع مستمرة، في وقت كان يجب أن تكون فيه جزءًا من محور إقليمي يدعم المصالح العربية المشتركة.
أردوغان وإعادة تشكيل دوائر النفوذ الإقليمي
تحركات أردوغان، سواء في إفريقيا أو الشرق الأوسط، ليست مجرد مبادرات سياسية أو اقتصادية، بل هي استراتيجية متكاملة لإعادة تشكيل دوائر النفوذ الإقليمي لصالح تركيا. من المصالحة بين إثيوبيا والصومال، إلى التدخلات في سوريا، تبدو السياسة التركية مصممة على تقويض أي نفوذ مصري يمكن أن يشكل تحديًا لطموحات أنقرة الإقليمية.
بالرغم من تطبيع العلاقات بين البلدين، يظل السؤال الأساسي قائمًا: ماذا يريد أردوغان من مصر؟ الإجابة تبدو واضحة في ظل استمرار التحركات التركية في مناطق النفوذ المصري. أردوغان لا يسعى فقط إلى إحكام السيطرة على مناطق استراتيجية، بل إلى تقييد النفوذ المصري وتقويض أي محاولات لبناء دور إقليمي قوي قادر على مواجهة التحديات المشتركة.
السياسة التركية في عهد أردوغان تحمل أبعادًا تتجاوز المصالح الوطنية إلى تنافس إقليمي مفتوح، حيث تسعى أنقرة إلى تقديم نفسها كقوة إقليمية قادرة على تشكيل المعادلات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط وإفريقيا. وعلى الرغم من محاولات التقارب الأخيرة، فإن تحركات أردوغان الإقليمية تظل مناهضة لمصر، مما يجعل العلاقة بين البلدين أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في ظاهرها.