"الفقراء .. والحفاة نسبتهم بلغت ٩٩.٩ ٪ و الرئيس جمال عبد الناصر هو من جعلهم يرتدون الأحذية" هكذا أطل علينا مخرج سينمائي بكلماته عبر شاشة إحدى القنوات الخليجية ، والسؤال هل هذا صحيح ؟ أم أنها أساطير جنة الفقراء التي يرددها أصحاب الهوس بناصر ؟ .
تاريخ الشعب المصري عبارة عن معاناة مستمرة لم تنقطع من الفقر والديون وغياب الديمقراطية والكذبة والكسبة إلى يومنا هذا حتى في العصور التي تاجر بها الحكام بالفقراء والحفاة ، و حتى لا يكون أحاديثنا أشبه بأحاديث "المصاطب" التي وقع فيها "المخرج سيئ الذكر " فالإشكالية ليست في الانحيازات المهم أن تكون انحيازاتك مدروسة و مستندة على أرقام واحصائيات واضحة وموثقة فعندما نتحدث عن نسبة الفقراء في مصر ، وعن أرقام الحفاة لا يمكن أن أقول أن الحفاة في مصر كانت نسبتهم ٩٩.٩ ٪ لمجرد أنني أريد الانتصار لشخص على حساب وطن ، ويصل بنا درجة الاستخفاف بتاريخنا وقضايانا أن نذكر نسب غير صحيحة لمجرد أنني أريد أن أقول الرئيس جمال عبد الناصر هو من جعل أهل مصر يشترون الأحذية بعد أن كانوا يسيرون على الأرض حفاة .. فهل هذا معقول ؟! .
لم يكن أهل المحروسة في العصر الملكي أسعد حالا بل بالفعل عاشوا معاناة شديدة وشهدت مصر فجوات طبقية كبيرة ولكن لم يكن الحفاة نسبتهم ٩٩.٩ ٪ وإنما وفقا لمقال لمحمد سعيد مدير مصلحة الجمارك المصرية في عهد الملك فاروق كتبه بعنوان نصف سكان مصر يعيشون عيشة البهائم وتحدث في المقال عن الدخول المتدنية وأن ٤ ملايين مصري يعيشون على دخل جنيه واحد في الشهر وأن ٥ ملايين يعيشون على دخل لا يزيد عن جنيهين في الشهر وعلى حد وصفه أن هذا يعني أن نصف الأمة ليسوا في حساب الأحياء ، نصف الأمة وليس ٩٩.٩ ٪ كما أراد أن يخبرنا "المخرج" والسؤال : ما الذي جرى بعد ١٩٥٢ وهل تحول الفقراء لأغنياء هل عاشوا في الجنة أم هي أساطير رأسمالية ناصر التي استفاد منها الأغنياء وليس الفقراء ؟
وبعيدا عن أي هوى وأساطير
المفاجأة تكمن في أن الفقراء والحفاة لم يتغير وضعهم في عهد عبد الناصر بل من استفاد من رأسمالية ناصر هم الأغنياء وليسوا الفقراء والدليل ما قاله ناصر نفسه في حواره مع الوزراء العسكريين السوريين ( أنا كان عندي ١٠ - ١٢ مليونير أصبحوا ٣٠٠- ٤٠٠ مليونير البورجوازية تتسع قاعدتها في مصر و لابد من ضربها ) هنا المستفيد كانت البورجوازية الكبيرة وكذلك بعض من البورجوازية الصغيرة التي استفادت من التصاقها بالسلطة ولم يستفد الفقراء والحفاة ، وليس معنى أنهم ارتدوا أحذية من شركة "باتا" التي تم تأميمها أنهم خرجوا من دائرة الفقر .
المفاجأة الأكبر أن المستفيد من الإصلاح الزراعي لم يكن الفقراء والحفاة وعمال التراحيل بل الأغنياء من الفلاحين ، وذلك وفقا للدراسة التي قدمها الدكتور محمود عبد الفضيل " التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الريف المصري من ١٩٥٢ وحتى ١٩٧٠ وأكد فيها أن الشريحة التي أمتلكت من ٢٠ إلى ٥٠ فدانا قد نجحت في امتلاك المزيد من الأراضي الزراعية بالشكل الذي لم يتحقق لأي شريحة أخرى ( بلغت المساحة المملوكة في هذه الشريحة ١٦١ الف فدان أي ١٩.٨٪ من مساحة الأرض التي يمتلكونها ، فضلا عن أن أغنياء الفلاحين اتجهوا لزراعة الخضر والفواكه التي لا يقدر على زراعتها صغار الفلاحين لما تحتاجه من تكاليف باهظة ومساحات أرض كبيرة وفي نفس الوقت تحقق أرباحا عالية مما زاد الفجوة بين صغار الفلاحين وأغنيائها .. و الخلاصة: الهدف من الإصلاح الزراعي ضرب كبار الملاك أو الإقطاعين لسلب السلطة منهم واستفاد أغنياء الفلاحين من ذلك دون إستفادة الفقراء والحفاة ومن أراد الاطلاع على المزيد في هذا الشأن يعود لكتاب ثورة يوليو الجزء الثالث البحث عن الديمقراطية والبحث عن الاشتراكية لأحمد حمروش .
المفاجأة الثانية أن نسبة ٥٠٪ عمال و فلاحين الممثلة في مجلس الأمة ذهبت المقاعد كلها لمن يمتلكون ٢٥ فدانا الأمر الذي منح لطبقة أغنياء الفلاحين السيطرة السياسية والاجتماعية ، هناك فرق كبير بين العدالة الاجتماعية ومنح مكتسبات لطبقة على حساب أخرى لتصبح الظهير الإجتماعي للنظام ويكون دورها أن تهتف للسلطة .. وتهتف .. وتهتف وتحصل على ثمن الهُتاف، ولن اتحدث عن انتقائية الإصلاح الزراعي ، ومصادرة الأموال وانتقائيتها وغيرها من سياسات تؤكد أن جنة الفقراء على أرض مصر في عهد عبد الناصر كانت أسطورة داعب بها مشاعرهم ولم يحقق الجنة على الأرض .
وماذا عن التعليم ؟ سنقولها مرارا وتكرارا حكومة الوفد الأولى صاحبة قرار مجانية التعليم الابتدائي .. والحكومة الثانية للنحاس والتي رأسها كانت صاحبة مجانيّة التعليم الثانوي ولا داعي لنذكر من اتخذ قرار دخول البورجوازية الصغيرة للكلية الحربية ، ولا داعي أن نقول الجملة الشهيرة لعميد الأدب العربي وزير المعارف الدكتور طه حسين التعليم لابد ان يكون كالماء والهواء .
أما التجربة التنموية فليست كما يروج البعض بل التجربة في مجملها لم تحقق الأهداف المنشودة وعلى سبيل المثال لم نحقق الاكتفاء الذاتي في القمح وكنا نشتريه من الولايات المتحدة الأمريكية ففي عام ١٩٦١ كانت المساعدات الغذائية الأمريكية تشكل ٧٧٪ ، وفي عام ١٩٦٢ وقعت مصر اتفاقية بعنوان " الغذاء من أجل السلام " مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل توريد ما قيمته ٣٩٠ مليون دولار من القمح والسلع الغذائية لمصر لمدة ٣ سنوات تنتهي في أكتوبر ١٩٦٥ ، وتعثرت الخطة الخمسية وكان هناك فجوة في الميزان التجاري رغم تجربة التصنيع وهنا استدعي استنتاجاً لسامح نجيب في بحثه المنشور بعنوان هزيمة ١٩٦٧ وفشل الدولة التنموية الناصرية المنشور في كتاب في تشريح الهزيمة حرب يونيو ١٩٦٧ بعد خمسين عاما ( كان هناك نمو ولكن لم يحول مصر إلى مركز للتراكم الرأسمالي القادر على المنافسة عالميا كما حدث في تجارب جنوب شرق آسيا وبالتأكيد لم يمكنا النظام الناصري من حماية مصالحه الإقليمية ).
وماذا عن الديون ؟ الذي لم تكن من السوفيت وأمريكا فقط بل ذهبت مصر للصين وحصلت على قرض بقيمة ٨٠ مليون دولار ، وألمانيا الشرقية وحصلت على قرض بقيمة ١٠٠ مليون دولار ، وفي ١٩٦٥ زار عامر فرنسا وحصل على مساعدات وقمح بقيمة ٥٠ مليون دولار ، وماذا عن الدولار الذي ارتفع من ٣٥ قرشا إلى ٤٥ قرشا وزادت الأسعار بسببه ، وهذا ما يحدث حتى يومنا هذا .
وماذا عن المغامرات العسكرية الخاسرة ؟ وماذا عن القهر ودولة الخوف وأسئلة كثيرة بدون التركيز على الهزيمة فقط مصر خسرت في جميع الميادين قبل ان تخسر في سيناء، بل أن احتلال سيناء كانت نتيجة لخسارتها سياسيا واجتماعيا وصراعات السلطة بين الرفاق ناصر وعامر وليس بسبب المؤامرة .
وللأسف جنة الفقراء التي وعد بها عبد الناصر لم يحققها ولا يصح أن نأخذ تاريخنا من "مخرج " مع إحترامي للفن والفنانين ولكن ليس لأي فن إننى أحترم الفن غير الموجه الذي يصطف مع الجماهير ومعاناتهم وفقرهم ولا يتاجر بهم ولا ينسب نفسه لشخص ليزيف التاريخ ويروج لنفسه أنه صاحب قضية .
وأختتم قائلا: " إن مصر تعيش دوامات الإنهيار الاقتصادي بلا مخرج وإنه لا يوجد إحساس بالفقراء سوى توزيع صناديق الطعام والهبات والتي تأخذ عنوان براق "حياة كريمة" وهي انعكاس لتدني الحياة بل وهرس الفقراء ومعهم الطبقة الوسطى الذين لم يروا جنة على أرض مصر في اي مرحلة من المراحل بل الجنة كانت للظهير المتحالف مع السلطة ".