مر ما يقرب من نحو ثمان سنوات، منذ أن بدأت الكتابة في هذا المكان، بجريدة الأهرام الغراء، لاحظت خلالهم، تفاعل الكثير من القراء مع المقالات ذات الطبيعة الإنسانية والاجتماعية، ولقد كان من بين تلك المقالات التي نالت اهتماماً كبيراً، هو المقال الذي رويت فيه قصة التحاق حفيدتي الكبرى "فرح" بنظام التعليم الألماني، وترشيحها لاستكمال دراستها الجامعية في ألمانيا. ولما كانت مقالتي تنشر يوم الخميس، من كل أسبوع، فقد كتبت، حينئذ، أننا كنا على موعد للقاء العائلي، يوم الجمعة، لتقرير ما إن كانت فرح ستسافر إلى ألمانيا لاستكمال دراساتها، أم ستبقى في مصر.
وخلال كل السنوات التي مرت منذ كتابة ذلك المقال في نوفمبر من عام 2017، لمست بنفسي اهتمام القراء الأعزاء، بمصير حفيدتي فرح، فلم أدخل مكاناً؛ سواء مطعم أو سوبر ماركت، أو لإلقاء محاضرة في أي من الجامعات، أو التجمعات، إلا وسألني الكثيرون عما جرى مع حفيدتي، وعما إن كانت قد التحقت بجامعة ميونيخ في ألمانيا أم لا؟ فقررت أن استكمل معكم قصة فرح.
تعود القصة لطفولة حفيدتي فرح، التي كانت والدتها ترغب في إلحاقها بأحد المدارس الألمانية بالقاهرة، التي كان، ولازال، عددها محدود، مقارنة بالمدارس الإنجليزية، والأمريكية والفرنسية، الأكثر انتشاراً، مما جعل الالتحاق بها "أشبه بدخول الجنة"، على وصف البعض، إلا أننا اجتهدنا في السؤال، والسعي، حتى تم قبول حفيدتي.
وذهبت إلى المدرسة، للقاء مديرتها، وشكرها، فبادرتني قائلة بأنه لا داعي للشكر، فالمدرسة لا تقبل الوسائط، وإن كانت حفيدتي قد قُبلت فيها، فلذلك أسبابه المحددة، وسحبت من على مكتبها ملفاً، مدوناً عليه اسم حفيدتي، لتطلعني على ما فيه من أسباب القبول. فقالت أن المقابلة التي حُددت لحفيدتي، ووالديها، بعد التقديم للمدرسة، قد عُقدت بواسطة لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء، لكل منهم تخصصه واختصاصه؛ أحدهم موكل إليه تقييم الأم، والثاني لتقييم الأب، والأخير لتقييم الطفل ذاته، ثم أمعنت النظر إلى الأوراق الموجودة أمامها، واستطردت قائلة أن حفيدتي طُلب منها في ذلك اليوم، عند بدء اللقاء، أن تتوجه إلى ركن الألعاب "لتفعل ما تشاء"، بينما يتابعها، عن بُعد، عضو اللجنة المسئول عنها، فسحبت حفيدتي، من بين الألعاب الكثيرة، علبة المكعبات، وبدأت تكّون بها أشكالاً وأرقاماً وحروفاً، وبانتهاء الوقت المحدد للقاء، وقبل أن تغادر الطفلة، رصت المكعبات في علبتها، وأعادتها، مرة أخرى، إلى مكانها، فكان ذلك سبب قبولها في المدرسة الألمانية!
انتظمت حفيدتي في دراستها، لسنوات عدة، وجاءت يوماً لزيارتي في الأقصر، عندما كنت محافظاً لها، وتصادف، في ذلك اليوم، وجود السفير الألماني في ضيافتي، والتقى حفيدتي، فانبهر بمستوى إجادتها للغة الألمانية، كإحدى أبنائها، فضلاً عن الإنجليزية والفرنسية، على حد سواء، فما كان منه إلا أن اتصل، فوراً، بمديرة المدرسة، وشكرها على تميز أداء المدرسة، بعدما خاض اختباراً، عملياً، لإحدى طالباتها. مرت السنوات، سريعاً، وإذا بي جالساً بمسرح المدرسة الألمانية، أشاهد حفلاً بديعاً، يضاهي في رقيه وانضباطه، تلك الاحتفاليات الدولية ... إنه حفل تخرج حفيدتي، فرح، بعد حصولها، على شهادة "الأبيتور" الألمانية، المعادلة للثانوية العامة، وكان ترتيبها متقدماً، بما أهلها للحصول على "منحة تفوق" لاستكمال دراستها في ألمانيا.
وحضرت لجنة من ألمانيا للقاهرة، لاختبار الحاصلين على منحة التفوق، وأفاد أعضاؤها بأن المنحة تكون لعام واحد، فقط، ويشترط التفوق، لتجديدها لعام تالي، وهكذا، حتى الانتهاء من الدراسة الجامعية، التي تمتد لثلاث سنوات، وفقاً للنظام الألماني. وهنا، وأمام أعضاء اللجنة، رفضت حفيدتي هذا الشرط، مبررة رفضها بعدم استعادها لفقد المنحة الدراسية، لأسباب قد تتعلق بمرض مفاجئ، على سبيل المثال. ولم تكتف برفض شرط المنحة، بل أملت هي شروطها على أعضاء اللجنة، ثقةً منها في قدراتها، "إما المنحة لثلاث سنوات دراسية كاملة، أو الاعتذار عنها"، وفي سابقة أولى، وبعد فحص ملف حفيدتي، التي اجتازت جميع سنواتها الدراسية بتقدير امتياز، وافقت اللجنة، فوراً، على شرطها، واعتمدت منحتها لثلاث سنوات دفعة واحدة.
وحانت لحظة القرار الصعب؛ هل تسافر حفيدتي، التي لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها، إلى ألمانيا وحدها؟ استشارتني ابنتي وزوجها، تاركين لي القرار النهائي، ولصعوبته على نفسي، رأيت طرحه للنقاش على "مجلس العائلة"، عندما يجتمع الأولاد والأحفاد، يوم الجمعة، من كل أسبوع. وبعدما انتهينا من غذائنا، بدأنا النقاش الذي استمر لأربعة ساعات كاملة، ساق فيها جميع أفراد العائلة أسبابهم للقبول أو للرفض، استمعت خلالهم للصغير، قبل الكبير، فلكل منهم وجهة نظره، وأسبابه، وانتهى النقاش بالتصويت بالموافقة على سفر فرح.
وسافرت حفيدتي، الكبيرة في ترتيبها بين الأحفاد، والصغيرة في السن، وحدها، إلى ألمانيا، فانفطر قلبي لبُعدها، الذي لم اعتاد، يوماً عليه، رغم تعدد الزيارات المتبادلة بيننا، وبالرغم من التطبيقات التكنولوجية الحديثة، على الهواتف المحمولة، التي أتاحت لنا رؤيتها في كل دقيقة، وكأننا نعيش معها. وحصلت حفيدتي على تقدير امتياز في عامها الجامعي الأول، وقبل أن تبدأ عامها الثاني، كانت الجامعة قد اختارتها لمنحة، جديدة، لدراسة الماجستير بها، وحصلت، بالفعل، على الدرجة العلمية بتقدير امتياز، ورفضت استكمال الدكتوراه في ألمانيا، وفضلت العودة إلى مصر، والعمل فيها، لتكتمل فرحة العائلة بها.,كانت تلك "قصة فرح"، التي لها، ولنا، من اسمها نصيب!