علمونا في الجامعات، وبالتحديد في اختصاص الصحافة، كيف نحرر الخبر، ونعد التقارير الإخبارية عن كافة المواضيع؛ السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية... دربونا على كيفية تقديم النشرات الإخبارية، وعرض البرامج التلفزيونية... لكنهم أغفلوا دروسًا أكثر أهمية! لم يعلمونا كيف نرثي زملاءنا الصحفيين، وكيف ننقل خبر استشهاد أمهاتنا وآبائنا وأفراد عائلاتنا... علمونا أن نكون حياديين، وأن ندفن مشاعرنا وتعاطفنا خلال التغطية الإعلامية... ولكن كيف لمراسل أن يسيطر على مشاعره، ويكتم آهاته، ويمنع جسده من الانهيار، عند قراءته لاسم أخيه شهيدًا على الهواء مباشرة؟! تمامًا كما حصل مع الصحفية ناهد أبو هربيد من غزة، وغيرها من الإعلامين!
الصحفية ناهد أبو هربيد
بصوتٍ يكسوه الألم والإنهاك، استهلت ناهد حديثها معي قائلة: "كتير تعبنا يا رُفيدة، يا رب الصبر، نحنا منهارين، والله منهارين، وجوهنا شاحبة، ونفسياتنا مدمرة، من هول المشاهد التي نراها. كل شي فيا موجوع، حتى أشكالنا ما عادت هيا، صرنا أشباح من قلة كل شي، وحتى ملابسنا صارت مهترئة، كل شي داب متل قلوبنا، الحمد لله".
ناهد ليست مجرد صحفية تقوم بتغطية مجازر الإبادة في غزة، إنما هي بشر مثلنا تمر عليها فترات تعجز عن الوقوف على قدميها من شدة التعب، خاصة أنها منذ بداية الحرب لم تكلّ ولم تملّ من التغطية المستمرة، على الرغم من كل ما أصابها من فواجع، وفقدانها أشقاءها، ووحدتها المأساوية؛ فمشاهد الإبادة التي تعرضت لها أثرت فيها بشكل عميق، حيث قالت: "مو قدرانين نكمل، اندبحنا، والله نحنا ما منستاهل هيك يصير، ولاد صغار عم بتكوموا بكيس. آسفة عم بحكي هيك، انت مو ذنبك تسمعي هيك، بس محروقين من جواتنا، نفسي نصرخ ونطلع الصرخة يلي جواتنا، أطفالنا ونساؤنا وكل شي يباد ومعظم العالم خذلنا!".
كما كشفت ناهد عن الأحاديث المتداولة بين الصحفيين، خاصةً بعد استهداف خيامهم أكثر من مرة، قائلة: "أصارحك بشي، كل يوم منستنى دورنا، الصحفيين بكونوا قاعدين، وهاي المرة الرابعة التي يتم استهداف المستشفى جنب خيام الصحفيين، وكل واحد بصير يقول: يا شباب خلينا نشبع من بعض، ونتصور كتير، عشان أي واحد فينا رح يسلم التاني، وأبصر مين رح يصلي عالتاني!".
من أصعب اللحظات التي عاشتها ناهد كصحفية رثاؤها لأخيها على الهواء مباشرة، حيث قالت: "أصعب شيء عايشته أني قرأَت على الهواء مباشرة خبر استشهاد شقيقي، ثم انهرت وأجهشت بالبكاء. وبعد شهرين، قرأت خبر اعتقال قوات الاحتلال لشقيقي الآخر مبتور القدمين، وانهرت من جديد. فأثناء وجودي على رأس عملي في رابع أيام شهر رمضان من العام 2024، تلقيت خبر استشهاد شقيقي محمد، وإصابة شقيقي رافع الذي يعاني من بتر في قدميه منذ عدوان عام 2008، لأخرج على الهواء، وأعلن خبر استشهاده بنفسي، ومعه ضحايا غيره، كانوا قد انطلقوا إلى دوار النابلسي غربي مدينة غزة للحصول على الدقيق، أثناء المجاعة التي تسبب بها الاحتلال شمالاً. وصلني الخبر نحو الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، أثناء وجودي على رأس عملي، حاولت التماسك وخرجت على الهواء، تحدّثت عن كل الأحداث الميدانية في قطاع غزة، وعن مجزرة دوار النابلسي، وأعلنت خبر استشهاد شقيقي محمد، وإصابة رافع. ولم تكن هذه أول مرة أذيع فيها خبر استشهاد شقيقٍ لي، فقد عايشت الموقف ذاته خلال عدوان عام 2008، حين كنت مراسلة لإذاعة مسموعة، بينما شنّت قوات الاحتلال عدوانًا على القطاع بتاريخ 28/12/2008، وكان شقيقي الأكبر محمود الذي يعمل شرطيًا ضمن شهداء المجزرة التي راح ضحيتها نحو 400 شرطي، وخرجت على الهواء لأتحدث عما جرى. كتب علينا أن نغطّي أحداث الحرب، وأن نصبح نحن الخبر نفسه".
معاناة ناهد مستمرة
مآسي ناهد لم تنتهِ هنا، فقد تابعت قائلة: "رغم أن شقيقي رافع تماثل للشفاء، لكنه نزح إلى أحد مراكز الإيواء التابعة لوكالة الغوث شمال القطاع. وهناك اقتحمت قوات الاحتلال المدرسة، وجرّدته من أطرافه الصناعية، واعتدت عليه بالضرب المبرح، رغم عدم قدرته على الدفاع عن نفسه وهو مبتور الأطراف، ثم وضعوه فوق الدبابة، وخرجوا به إلى جهة مجهولة. تواصلت مع الصليب الأحمر الذي أبلغني بإمكانية الحصول على أخبار حول وضعه بعد ثلاثة أسابيع. للحظات تمنيت لو يصطفيه الله شهيدًا، فأنا أعلم تمامًا التعذيب الوحشي الذي يتعرض له أسرى قطاع غزة، وقد غطيت بنفسي شهادات لعدد ممن أفرج عنهم، رواياتهم تنفطر لها القلوب حزنًا ودمًا، فما بالك بمن هو عاجز عن الدفاع عن نفسه أصلاً!".
وأضافت ناهد عن صعوبة عملها الإعلامي في هذه الحرب، قائلة: "ما نعانيه بشكل شخصي بسبب الحرب، وصعوبة التغطية هذه المرة، مقارنةً بتغطيات الحروب السابقة لا يُعدّ شيئًا أمام ما شاهدناه وعايشناه من وجع وقهر وألم... إنها ليست التجربة الأولى، فقد بدأت العمل ميدانيًّا مع عدوان عام 2008، واكتسبت خبرةً كبيرةً في نقل الأحداث والقصص بمصداقيةٍ وإنسانية عالية، لكن هذه المرة ليست كسابقاتها، هنا تعجز الكلمات عن التعبير. هذه حرب إبادةٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد نجوت شخصيًّا خلالها من الموت المحقق أكثر من مرة".
ثبات رغم المحن والآلام
رغم كل ما عانته ناهد من محن وآلام، إلا أنها ما زالت تواصل عملها الصحفي بثبات، وتتابع تغطيتها بكل إصرار، رغم التهديدات الإسرائيلية التي وصلتها. حيث ختمت بالقول: "كان لدي أربع أشقاء، استشهد محمود ومحمد، واعتقل رافع، وأخي الرابع إيهاب لا أعلم عنه شيئًا، ولا توجد اتصالات، فقط رجائي من الله أن يكون بخير. أفخر أنني أخت الشهيدين والجريح والأسير، ومصرّة على مواصلة التغطية، رغم أنني تلقيت تهديدات من أرقام إسرائيلية على هاتفي النقال، بالنيل من حياتي، ووصلتني عبر صفحة فيس بوك رسائل تشمت باستشهاد شقيقي، ومع ذلك فأنا أردُّ على كل ما أعانيه بمواصلة التغطية".