هذا المقال كتبته بعد رحيل زميلي واخي العزيز رجائي، أعيد نشره بمناسبة ذكري حرب اكتوبر لان هذا المقاتل النقابي كان يعتز بمشاركته مقاتلا في حرب اكتوبر.
< هذا وداع يليق بك وحدك يا رجائي، فمن حيث أرادت الجائحة ( كورونا) أن تحرمنا من عزاء بحجم ما لك في قلوب محبة، ومن عارفي فضلك وقدرك ومكانتك، فإذا انفجار طوفان من مشاعر وعواطف خرجت من كل فج لتلتقي وتتجمع على وسائل التواصل في مظاهرة حب وتقدير وتعزف على سيرتك الطيبة.. وعلى قدر صدمة فراقك وفقدك، لفتني يا رجائي أن أتلقى العزاء فيك كأسرتك الصغيرة وعائلتك، فلم يتوقف هاتفي عن الرنين، أغلبهم من شباب لم يعاصروك في موقعك النقابي، لكنهم نبت ما سعيت له من زراعة قيم الأمل والحرية والإيمان بالمستقبل، وشخصيات عامة محترمة تقدر مكانتك، وبسطاء من المتابعين لمعارك الحرية أغنياء بالوعي وإدراك قيمة الناس. مشوار طويل منذ تعارفنا، تآلفت فيه الأرواح والمواقف والمعارك والهموم. أنت من جيل سبقني قليلًا، تلاقينا على ثقافة لم تفرق بين المهنة والكيان النقابي، كانت العلاقات المباشرة شبه اليومية هي وسيلة التواصل، ولم يكن جيلنا يعرف بعد هذا العالم الافتراضي، الذي يسود الآن، حيث تبددت الطاقة بالتنفيس وتراجع كثير من الفعل. دورة حياتنا لم تكن تكتمل إلا بالالتقاء يوميًا في النقابة بعد انتهاء العمل. قضايا المهنة وعلاقات العمل والحريات والأمور العامة وحدة واحدة نلتف حولها، وعليها يدور الحوار ويتم الحساب مع أي مجلس إدارة منتخب للنقابة، ومنها يتم الفرز لبعض قيادات نقابية طبيعية، تتقدم الصفوف وتتحمل المسؤولية.
في هذا المناخ اكتسبت الجمعية العمومية حضورها وقوتها، التي لم يكن أي مجلس مهما كان تكوينه أو توجهه يستطيع أن يتجاهلها أو لا يعمل حسابها.
في هذه الأجواء عرفتك.. رجائي الإنسان الخلوق، البشوش، المثقف، المتواضع بكبرياء، والمهني المتميز، وصاحب الموقف.
كان ذلك قبل سنوات من قرارنا خوض انتخابات عضوية مجلس النقابة ١٩٩٥، لنبدأ معًا مشوارًا نقابيًا طويلًا قدر لنا أن تكون بدايته ساخنة، عندما داهمنا القانون ٩٣ بعد عدة أسابيع لوضع مزيد من القيود على حرية الصحافة والصحفيين، واستمرت مواجهته نحو عام بجمعية عمومية مفتوحة.
وهنا يتجلى دور عدد من أعضاء المجلس يتقدمهم رجائي الهادئ، والحاسم، ذو العقل الرشيد، والمنظم، والدؤوب.
وأذكر له عشرات المواقف والأدوار، وعندما نعود لأدبيات هذه المعركة أقول، باختصار ودون إهمال لأدوار كثيرين من داخل المجلس أو خارجه، أو لقيمة وأهمية العمل الجماعي والمؤسسي، التي حكمت إدارة هذه الأزمة، إن بصماته ستظل واضحة في صياغة وثائقها، والتعبير الرصين عما كانت تنتهي إليه مناقشات المجلس، وما يصدر عنه من مواقف وقرارات.
وأذكر في هذه المعركة موقفًا يبين بعضًا من خصاله ومنطقية تفكيره، فقد كان إيقاع الأزمة سريعًا والدولة على مدى شهور تبدي في الظاهر نية الحل، وعلى أرض الواقع تتلاعب وتلتف وتتحايل، وكان لا بد من أمر "يقلب الترابيزة"، ويحدث صدمة، واختمرت في ذهني بالتشاور مع الزميل الراحل مجدي مهنا، وكان شخصية نقابية ديناميكية ومخلصة، أن يعلن مجلس النقابة استقالته وترك أمر المواجهة للجمعية العمومية، وقال لي مجدي: "لكن عليك إقناع رجائي بالفكرة حتى يمكن أن نمررها في المجلس"، وكنت أتحسب للمهمة - رغم قربي منه - لأنني أدرك أن فهمه للأمور كمقاتل في حرب أكتوبر، ربما يفسر الفكرة، باعتبارها هروبًا من الميدان في قلب المعركة، وناقشني رجائي ودفعت له بمنطق أن الاقتراح تكتيك للهجوم وليس هروبًا وإننا ليس لدينا ما نخسره، وفعلًا كان اقتناعه هو المدخل الذي سهّل موافقة المجلس بالإجماع وإعلان قرار الاستقالة، الذي انضم إليه بعد ذلك النقيب إبراهيم نافع بعد عدة أيام أمام اجتماع للجمعية العمومية، وأحدث هذا الأمر تحولًا في إدارة المعركة، ووقف مناورات التلاعب، وتقرر أن نلتقي رئيس الجمهورية للمرة الثانية، وانتهت الأزمة بانتصار إرادة الصحفيين.
رجائي، كما عرفته، لم يكن يحركه إلا منطق وقناعات، ولم يكن من أهل المواءمات التي تتسلل كثيرًا إلى العمل النقابي فتدخل من الشباك كي تخرج المبادئ والمواقف من الباب.. كان نقابيًا أصيلًا وحقيقيًا مهما اختلفت معه، وليس "نقابنجي"، كما أحب أن أطلق على الذين يمتطون العمل النقابي لأغراض وأهداف أو طموحات خاصة. عندما تولى رئاسة اللجنة الثقافية، عاش رجائي شهورًا طويلة في بدروم مبنى النقابة القديم، يحافظ ويصنف أطنانًا من الصحف والدوريات والوثائق النادرة التي تحتفظ بها النقابة لينقذها من الضياع والتلف، ويمهد لحفظها بالتقنيات الحديثة (وهو ما تم عام ٢٠١٦ بتوقيع بروتوكول مع مكتبة الإسكندرية)، وتعرض في سبيل ذلك لمشكلة صحية في الصدر، ولمرض جلدي تعافى منه بعد فترة من العلاج.
كان المثقف والوطني بداخله لا ينفصل عن عضو المجلس المسؤول، وأذكر أننا خضنا معًا معركة الحفاظ على جدارية المثال الكبير فتحي محمود، التي كانت تتصدر مبنى النقابة القديم، فعندما تقرر هدم المبنى والانتقال لمقر مؤقت، حتى يتم الانتهاء من المبنى الجديد، اشترطنا الحفاظ على الجدارية (وكان هذا للأسف مثار سخرية من بعض أعضاء المجلس). وخاطبنا فاروق حسني وزير الثقافة في ذلك الوقت الذي أرسل بعض الخبراء، الذين أكدوا القيمة الفنية النادرة للجدارية وصاحبها، وأبدت الوزارة استعدادها لرفعها بطرق علمية وفنية تحافظ عليها. واقترح الوزير أن تأخذها الوزارة ضمن مقتنياتها في حال إذا كانت النقابة لا تريد الاحتفاظ بها. في الوقت نفسه كان مقاول هدم المبنى قد بدأ عمله بهمة وتسارع للانتهاء من مهمته، واستمر الضغط علينا للتنازل عن أمر الجدارية، وخشينا أن يتهور المقاول فيصيبها بأي أذى، خاصة بعد أن بدت شامخة على جدار وحيد باقٍ في ساحة مهدمة تمامًا.. وما كان منا إلا التناوب على حمايتها، وتهديد المقاول العجول، ومتابعة واستعجال وزارة الثقافة حتى تم التنفيذ، وجرى نقلها إلى المبنى المؤقت.
وفي هذا المبنى بدأ فصل آخر في مشوار حماية هذه الجدارية، التي احتلت على مدى ٣ سنوات غرفة بمواصفات تضمن درجات ونسبًا معينة من التهوية والرطوبة. وفي يوم فوجئنا بالأستاذ مكرم، وكان نقيبًا وقتها، يأمر بإفراغ الحجرة مما بها واستغلالها في نشاط آخر، هرعنا إليه رافضين، وكانت من المرات القليلة التي أجد فيها رجائي لا يقول رأيه بل ينذر من أمامه!.. انتصرنا في "معركة الجدارية"، وانتقلت معنا إلى المبنى الجديد لتحتل صدارة قاعة الدور الرابع، لتكون جسرًا تحكي قصة مبنيين وشهادة على تفكير عصر التقى فيه- بغير اتفاق معلن- الذين اعتبروا الجدارية من الأصنام مع من غلبوا قاعدة المكسب والخسارة، وسعوا لإهدار كل قيم الجمال، وإعلاء كل ما هو قبيح!!. وأشهد لرجائي عندما تولى رئاسة لجنة القيد أنه عمل بضمير قاضٍ ورفض طريقة "الكوتة"، التي تحدد أعداد القبول من كل جريدة، وتحمل عن طيب خاطر تبعات ذلك في ظل ثقافة نقابية كرست مفاهيم لم يستسلم لها. كان يهمه تطبيق القانون وأهلية المتقدم للعمل بالمهنة، وحرصه على دراسة ملف وقراءة أعمال كل متقدم. وفي سبيل ذلك كان يحمل الملفات في "شوال"، ويأخذها إلى منزله، لأن الوقت بالنقابة لا يتيح له هذا الأمر، كما يريده.
ظلت النقابة بالنسبة لرجائي- في كل الأوقات- شأنه شأن النقابيين العظام، هم واهتمام وحياة، يلبيها عندما تدعوه، ويأتي إليها عندما يشتاق، ويهرع إليها إذا تعرضت للأذى من غير دعوة، ويسعد بالجلوس فيها مع الشباب ناثرًا خبراته ونصائحه بحب واحتواء. وظلت يده ممدودة دائمًا بالمشورة والخبرة وأداء أي دور إذا كان خالصًا لوجه النقابة والمهنة ومصالح الزملاء.
سأفتقدك يا نقيب كما كان يحلو أن أخاطبك وكما كنت أرغب وأسعى، باعتبار أن المقعد كان جديرًا بك.. لكن عزاؤنا أننا نعيش في حقبة تعادي كل ما هو مخلص ومستقيم ومتفانٍ.. فما بالك وأنت عاشق لوطنك، وقاتلت دفاعًا عنه، وكدت تدفع حياتك من أجله، وكنت ترجئ نشر يومياتك البديعة وشهادتك عن مشاركتك في معركة المزرعة الصينية بحرب أكتوبر ٧٣ التي أطلعتني على بعض فصولها، وكأنك كنت تريد ألا تفاخر بواجب قمت به. أجزم أنك الآن، رغم خسارتنا التي لا تعوض برحيلك، غير جزع لأنك كعادتك عشت الحياة، كما تحب وأخلصت لقيمك، وأعطيت بلا حساب.. وداعًا يا رجائي.