تكمن أزمة الكابتن إيهاب جلال، الذي غيَّبه الموت أمس بعد صراع طويل مع الظلم، وقصير مع المرض، أنه صنع اسمه في عالم الإدارة الفنية لكرة القدم بعيدًا عن المعسكرين الأحمر والأبيض. أن تتوهج خارج القطيع في مصر مغامرة غير مأمونة العواقب! إذا لم تكن تنتمي إلى كيان كبير أو جهة مُعتبرة، فليس عليك إلا أن تتحرك حِذاءَ الجدار، والأفضل والأكثر أمنًا أن تتحرك داخله، أو تصمت تمامًا، أو تحزم حقائبك وتغادر! أما إذا أخذتك العزة بالإثم، وصدَّقت نفسك، وعملتَ بالأسباب وسعيتَ ونجحتَ، فإن نهايتك لن تختلف كثيرًا عن نهاية إيهاب جلال، وهي الموت كمدًا أو ظلمًا، أو كليهما معًا. شقَّ المدير الفني الراحل طريقه في عالم التدريب والإدارة الفنية، معتمدًا على نفسه ودون أي ظهير إعلامي يؤازره. وفي الوقت الذي كان الراحل يقطع فيه خطوات جيدة ومتميزة ويحقق نجاحات ملموسة، كانت هناك أذرع إعلامية، يحركها الغل والكراهية، تنال منه وتقلل من مُنجزه وتشكك في موهبته وجدارته، صباحًا وفي الظهيرة ومساءً. هناك إعلاميون كانوا يخصصون حلقات كاملة للتقليل من قدرات إيهاب جلال في ذروة حصوله مع بعض الفرق التي دربها على مراكز متقدمة في الترتيب العام للدوري الممتاز في السنوات الأخيرة. اللافت أن هذه البرامج كانت تستضيف مدربين متقاعدين فشلاً من المعسكرين الأحمر والأبيض، لم يحقق أيٌّ منهم إنجازًا تدريبيًا يُذكر؛ للتنظير على الرجل الذي يعمل في صمت بالغ، ولسان حاله يقول لمن ينالون منه: "سلامًا سلامًا". تعاظمت هذه الحملات واشتدت؛ عندما تم إسناد تدريب المنتخب الأول لكرة القدم إليه، ولم تضع أوزارها إلا بعد إقالته السريعة والمباغتة في واحد من أهم المشاهد الرياضة المصرية عبثًا، وهنا بدأت النهاية الفعلية لإيهاب جلال!
والأغرب من ذلك كله..أن الإعلاميين الذين كانوا يقودون هذه الحملات الممنهجة والرخيصة كانوا الأسبق "أمس" في إعلان نعي إيهاب جلال والترحُّم عليه، والتباكي عليه في برامجهم المسائية، كما كانوا الأسبق حضورًا لجنازته "اليوم"، ودموع التماسيح تملأ وجوههم الكالحة! التعامل الإعلامي مع إيهاب جلال خلال السنوات المنقضية كان رخيصًا جدًا، ويعكس من طرف غير خفي حالة الإعلام الرياضي المصري الذي لا يزال يمثل أكثر الحلقات والدوائر ضعفًا ورداءة وفوضى في منظومة الإعلام المصري.
وقفزًا على حالة إيهاب جلال التي سوف ينساها الرأي العام بالتقادم، كما نسى حالة اللاعب أحمد رفعت، وكما تغافل عن مقتل الباحثة المصرية ريم حامد في باريس، وغيرها الكثير..فإن الدرس الأبرز هنا، والذي لا يمكن تجاهله، هو أنه لا تحاول أن تنجح أو تصنع لنفسك اسمًا إذا لم تكن مستندًا على أحد الكيانات الكبيرة الرسمية. انتماؤك إلى كيان رسمي أو جهة مهمة يُقصِّر طريق الوصول أمامك، ولن تتكبد الحد الأدنى من المعاناة، بل إنه قد يمنحك ما هو أبعد من ذلك، فيُنصِّبُك -وأنت جاهل- حَكمًا على مَن هم يفوقونك في كل شيء، مُتحكمًا في مصائرهم، ومُسيطرًا على أرزاقهم. يمكنك مراجعة أسماء الوزراء وبعض كبار المسؤولين في الحكومتين الأخيرتين مثلاً؛ لتعرف كيف تمضي الأمور وتسير! لم يكن المنجز العلمي أو الإداري هو الفيصل ولا الحاكم، بل مقومات أخرى أبعد ما تكون عن المطلوب في المنصب الكبير!
وانظر حولك فيمن يقبضون على منصبين وثلاثة بأجور خرافية دون أي مبرر، وغيرُهم قعودٌ في بيوتهم، لا حول لهم ولا قوة ولا حدًا أدنى من أسباب الحياة. حالة إيهاب ليس وحيدة ولا استثناءً، بل إن هناك آلافًا حولنا مثله في مجالات شتى، ولكنها بعيدة عن بؤرة الضوء والشهرة والاهتمام! هل تذكرون طالب السياسة والاقتصاد المتفوق عبد الحميد شتا الذي نسى نفسه وقرر التقدم لاختبارات الخارجية، فأخبروه أنه "غير لائق اجتماعيًا"، فأنهى حياته غرقًا، ولو كان طالبًا بليدًا ولكنه لائق اجتماعيًا، ربما أصبح مندوب مصر في الأمم المتحدة أو سفيرها في واشنطن!
وقِس على حالة إيهاب جلال حالات أخرى كثيرة جدًا في جميع المجالات الأخرى، ولم يفلت من هذه النهاية العاجلة والمأساوية إلا من فعل أحد أمرين: إمَّا تحصَّن بإحدى الجهات إياها فنجا من الغرق الحتمي، وإمَّا غادر خارج البلاد، فأراح واستراح، حتى وإن لم يذكره إعلام بلده بخير أبدًا!
أمَّا إذا تيسرتَ لك الأمور وتوهجتَ خارج القطيع، فلا يجب أن تنسى نفسك أبدًا، ولا تأمن لوحشة الطريق، ففي لحظة مباغتة ودون سابق إنذار، ومن حيث لا تدري، ودون سبب حقيقي، قد تنقلب حياتك رأسًا على عقب، وترى نفسك هدفًا للتشكيك والتجريس والإهانة والاتهام، ولن يقف إلى جوارك أحد، ولا حتى ظلك؛ إلى أن تموت كمدًا أو ظلمًا، أو كليهما معًا، مثل إيهاب جلال أيضًا. اصنع قطيعك أولاً، ثم ابدًا طريق النجاح والتميز دون جهد أو إجهاد؛ لأنك حتمًا سوف تصل في لمح البصر أو بسرعة البرق، أيهما أقرب. قديمًا قالوا: "اختَر الصديق قبل الطريق"، أمَّا الأن فعليك أن تختار القطيع أولاً قبل أي شيء وكل شيء!