انطفأت النار .. وسكتت المنصات .. وتبقى الظاهرة دون بحث .. تريند يختفي و آخر يصعد ولا يعرف القوم فيما صعد ؟ وفيما أختفى؟ فالطبيبة لم تكن أول تريند ولن تكون الأخيرة.
في ظل إنحدار التعليم المستمر منذ عقود .. والتراجع الثقافي والمعرفي ..و تراجع الإعلام والفن .. كان لابد أن ندخل عصر "التريند" من أوسع أبوابه فهو بجدارة وصمة عصر نعيشه ظاهرة أشبه بالفقاعة يجري وراءها الكثير بحثا عن الشهرة والمال على حساب كل شئ وأي شئ .
وتعكس لنا علامة عصرنا "التريند "مدى التخلف الذي وصلنا إليه ، وفي تصوري أن فيديو الطبيبة بصرف النظر عن من يدافع عنها أو من يهاجمها فهي تعكس أن التفوق الدراسي لا يعني بالضرورة أنك ستكون على قدر عالي من العلم والثقافة والمعرفة تلك المقومات المهمة التي تجعلك تفكر بطريقة نقدية وتصيغ رسالتك وتحاول أن تساهم في تقدم المجتمع .
وبعيدا عن لغة التحدث ولو مؤقتا لأنه ليس مجرد أمرا شكليا ففي البداية "الطبيبة" أفتقدت لأسلوب التفكير العلمي والنقدي للظواهر التي تتعرض لها وبالأخص في كونها قررت أن الظاهرة زادت بصورة كبيرة فحكمها يفتقد لأي احصائيات ويقوم على مجرد تعرضها لظاهرتين أو أكثر وجهلت تماما أن أي نسبة أو إحصائية لا نستطيع أن نحكم بزيادتها إلا في إطار قياسها بالمجتمع ولكن ليس بعدد ما تشاهده يوميا أو تتعرض له واتصور أن هذه مهمة مراكز الإحصاء والدارسين لحجم الظواهر الاجتماعية .
ولو سلمنا أنفسنا لعدد ما نتعرض له لكان أطباء آخرين في نفس تخصصها أكبر سنا وأكثر خبرة لتحدثوا عن أعداد أكثر من ذلك بكثير وحكموا على المجتمع نفس أحكامها التعميمية .
الخطأ العلمي الفادح الذي وقعت فيه الطبيبة هو وصم المجتمع بالكامل والتشكيك في أنساب الأسر والدعوة للتأكد من خلال التحليلات الطبية تعميم مخجل ومخل في الحديث عن الظواهر الاجتماعية فالتعميم أول الدروس المرفوضة في دراستنا للعلوم الإنسانية.
أما الإدعاء بأن الأهداف تربوية وحديثها باستعلاء على المجتمع فهي نفسها وقعت في سقطة كبيرة باختزالها إفشاء أسرار الحالات في كونها لم تذكر أسماؤهم وبالتالي فهي حافظت على أداب المهنة ، وذلك دون أن تدري إن إفشاء الأسرار بالوقائع في حد ذاته بصرف النظر عن الأسماء هو خروج عن المحددات الأخلاقية للمهنة .
أما التوصية بالعنف في التربية فهذا لن يخلق سوى نفس مهزومة تكذب وتنافق وتنحرف أيضا ، و لن نعثر على الإنسان الذي تنادي به.
لاشك ان لغة الخطاب تعكس مستوى التفكير ومدى القدرة على طرح القضية بل الإسلوب في أوقات كثيرة يمكنك من جمع أنصار لقضيتك وما تحاول الدفاع عنه ، أو يجعل الناس تنفض من حولك .
ولا يجب بأي حال من الأحوال أن نختزل القضية في الطبيبة فقط القضية أكبر من ذلك فظاهرة التريند هدمت كل شيئ الأصول العلمية والمهنية ، فمثلا بعض القنوات الفضائية وبرامج مغمورة لمذيعات يبحثن عن الشهرة تسارعت وراء ما يحقق لهم المشاهدات باستضافة أبطال لوقائع جنسية فاضحة ، لا يحركهم سوى التريند والدخل الدولاري من المنصات ، ويعكس هذا المشهد لحاضر صعب أن نعيشه بهذا الشكل ومستقبل ضبابي في غياب أي نوع من أنواع النهضة لمجتمع لم يحقق التنمية الحقيقية وزادت فيه الهوات الطبقية والتي قد تفسر بعض الظواهر الكثيرة حولنا والتي نتلمسها .
وماذا عن المجتمع ؟ فما فعلته الطبيبة لم يخرج عن سياقات تنتشر ويدور فيها المجتمع حاليا فإذا كان البعض يسير ضد الآداب العامة باستضافته لكل شئ منحرف ويصنع تريندا جديدا ، فهي أرادات أن تظهر بمظهر حامي حمى الأخلاق والفضيلة ، ومن ثم لا يجب أن يكون عقابها مختلفا عن بعض المذيعات والشاشات التي لم تعبأ بالآداب العامة ، وذلك في إطار الإيقاف وأن تتعلم من الأخطاء و أن تلعب النقابة دورها ليس أكثر من ذلك ، وذلك لأن هناك شعورا بالإحباط عندما يكون هناك إزدواجية في التعامل مع الكثير من القضايا فالعدل يتطلب أن نكيل بمكيال واحد .
وللأسف البعض في المجتمع أصبح يميل لأسلوب الابتذال من أجل الوصول للمال والشهرة والسلطة فالغاية تبرر الوسيلة في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة والبحث عن الثراء السريع ، و وسط تراجع بل تغييب العلم والثقافة والمعرفة فأصبح البعض ممن يتصدرون المشهد في مختلف المجالات يعكسون حالة السقوط والطفولية لمجتمع لم يبلغ سن الرشد بعد وإنما مجتمع أقل ما يقال عنه أنه طفولي و يلهث وراء كل إثارة .
عصر "التريند" هو تدمير لأي اجتهاد حقيقي هو إنعكاس للنهضة المفقودة والاقتصاد المتردي والتراجع في كل شئ.