اتخذ القارئ الكبير
موقعه على دكة التلاوة بالمسجد العتيق في ستينيات القرن الماضي، وبدأ في تلاوة "ٌقرآن
الجمعة"، وما إن لمح وصول الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، حتى قفز من السورة التي
كان يقرؤها إلى قوله تعالى في سورة "النحل": "ولكم فيها جمالٌ حين تريحون
وحين تسرحون"، ووقف واستقر عند لفظة "جمال"، وكررها مراتِ عدة، حتى
يلفت أنظار الرئيس أولًا، ثم الحضور ثانيًا، إلى مقصده!
وبعد مرور سنين
طويلة على هذه الواقعة.. اصطحب وزير الزراعة الأسبق الدكتور يوسف والي قارئَا شهيرًا
إلى الفيوم لافتتاح أحد المشروعات الخيرية بالمحافظة، فما كان من الأخير إلا أن استهلَّ
تلاوته بقول الله تعالى: "يوسف أيها الصديق...."، في إسقاط ساقط وغير مقبول!
وبعد سنين أخرى
طويلة.. بدأ قارئ معروف تلاوته أمام الرئيس "المؤقت" عدلي منصور بقول الله
تعالى من سورة "الصافات": "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ"! وفور وصول الرئيس الحالي للحكم
دأب بعضهم على بدء تلاواتهم الخاطفة في حضرته بقول الله تعالى: "إنا فتحنا لك
فتحًا قريبًا"!
ما سلفَ ذكرُه مجردُ
غيضٍ من فيض عبث سَدَنة القرآن الكريم بكلام الله تعالى في حضرة الرؤساء وكبار المسؤولين.
من الثابت والمعلوم والمستقر يقينًا أن القرآن الكريم لم يحتفِ بالملوك والرؤساء والمسؤولين
المصريين، وليس في المصحف الشريف سورة باسم "مَلِك مصر" أو "رئيس مصر"،
بل ربما كان العكس؛ حيث ورد ذكر فرعون مصر ووزرائه وأثرياء عصره مقرونًا بالجبروت والغرور
والطغيان والهلاك، ولكن بعض القراء لا يأبهون بذلك كثيرًا، ويعملون دائمًا –بسذاجة
مفرطة وسطحية لافتة- على ليِّ أعناق عديد من الآيات المباركات، وتوظيفها في مغازلة
ثلاثية "الرئيس/ الحاكم/ الوزير"؛ ليتقربوا إليهم زُلفى!
عندما يعدم القارئ
الحيلة في النفاق والمداهنة بهذه الوسيلة الماكرة، فإنه قد يلجأ إلى النفاق المباشر،
مثل ذلك القارئ العجوز الذي انكبَّ يومًا على الوزير المعزول، وكان جالسًا على الأرض،
مُقبلًا رأسه ويديه وكفيه ووجنتيه الحمراوين، بعدما فرغ من تلاوة قرآن الجمعة في مسجد
السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها!
قد يغازلُ السياسي
والكاتبُ والشاعرُ والمطربُ والممثلُ، والموظفُ الكبيرُ والصغيرُ، الحاكمَ أو الرئيسَ،
في أي زمانٍ ومكانٍ، في مصرَ وخارجِها، ويمسحون له الأجواخ، طمعًا في إرضائِه، والنيلِ
من بحرِ إحسانِه، والعيشِ في كنفِه، ولكنْ لا ينبغي على قارئِ القرآنِ الكريمِ، أنْ
يضلَّ إلى هذا المستنقعِ، ويسقطَ في هذا الفخِّ، فهو بما يحملُه في صدرِهِ منْ كلامِ
اللهِ العظيمِ، أعظمُ شأنًا، وأجلُّ مقامًا، منْ أن يسلكَ مسالكَ الغاوينَ ودروب المنافقينَ
وطرائق الماكرين.
لقد دأبَ نفرٌ منْ قُراءِ القرآنِ الكريمِ، منذُ
زمن الملكية، ثم الجمهورية بنُسخها المتعددة، وحتى يومِنا هذا، على مغازلةِ الحكام
وكبار معاونيهم، إذا قرءوا أمامَهم، حيثُ يتلونَ في حضرتِهم آياتٍ، خاطبَ اللهُ بها
رسولَه الخاتمِ واختصَّه بها دونَ غيرِه، كقولِه تعالى: "إنَّ الذينَ يُبايعونكَ،
إنما يبايعونَ اللهَ، يدُ اللهِ فوقَ أيديهم"، وقولِه تعالى: "إنّكَ لا تهدي
من أحببتَ، ولكنَّ اللهَ يهدي من يشاءُ"، وقولِه تعالى: " إنَّا فتحنا لكَ
فتحًا مبينًا"، وقولِه تعالى: "وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمينَ"،
وقولِهِ تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"، وقد يتجاوزون
ذلك كله إلى آيات خاطب الله تعالى بها نفسه أو تحدث بها عن ذاته،.. فهل هذا يصح أو
يجوز؟!
ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرةٍ أنَّ الإصرارَ على تلاوةِ
مثلِ هذهِ الآياتِ وأمثالها في حضرةِ الرؤساء ومساعديهم يحملُ في ظاهرِه وباطنِه غرضًا
سياسيًا واضحًا ونفاقًا مكشوفًا، يهدفُ إلى رفع "الرئيس/ المسؤول" إلى منزلةِ
"النبيِّ"، وربما أبعد من مقام النبوة! يجبُ على أهل العلمِ الصادقين أنْ
يُبصّروا القُرّاءَ، وكثيرٌ منهم محدود التعليم والبصيرة- بخطورةِ ما يقترفونَ، وينهوهم
عنه، ويُعلّموهم أن القرآنَ الكريمَ أعظمُ منْ أنْ يتمَّ توظيفُه لأغراضٍ سياسيةٍ وماديةٍ،
وأكبرُ من أن يتمَّ تطويعُ آياتِه ولىِّ أعناقِها على هذا النحوِّ المبتذلِ.
المؤكدُ أنَّ الرؤساءَ
والحكامَ، على اختلاف طبائِعِهم وأمزجتِهم، لا يُوجِّهونَ القُرّاءَ بتلاوةِ مثلِ هذه
الآياتِ أمامَهم، ويُدركونَ أيضًا أنَّ القرآنَ الكريمَ لمْ ينزل في أي منهم، ولا يضعُ
أحدُهم نفسَه، في مرتبةِ خاتمِ المرسلينَ، ولكنَّ بعضَ حاملي القرآنِ الكريمِ لا يُقدّرونَ
الأمانة التي اختصّهم اللهُ بها حقَّ قدرها، ويسعوَنَ إلى إرضاء البشرِ، ويكاد الواحد
منهم أن يسلك مسلك الشاعر ابن هانئ الأندلسي عندما نافق الخليفة الفاطمي المعز لدين
الله منشدًا: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ/ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ/ وكأنّما
أنتَ النبيُّ محمّدٌ/ وكأنّما أنصاركَ الانصارُ/ أنتَ الذي كانتْ تُبشِّرنَا بهِ/ في
كُتْبِها الأحبارُ والأخبارُ/ هذا إمامُ المتَّقينَ ومنْ بهِ/ قد دُوِّخَ الطُّغيانُ
والكُفّار/هذا الذي ترجى النجاة بحبِّهِ/ وبه يحطُّ الإصرُ والأوزار/ هذا الذي تجدي
شفاعته غدًا/ وتفجَّرَتْ وتدفّقَتْ أنهار!
قد يكون النفاقُ
سَمتَ الشعراء، كما ذكر القرآنُ الكريمُ: "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترَ أنهم
في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون"، ولكنه لا يجب أبدًا أن يكون شِرعةً
ومِنهاجًا لمن حفظ الله كتابه الكريم في صدورهم وائتمنهم عليه؛ بحثًا عن متاعٍ زائلٍ
أو وسامٍ "دنيويٍّ" سوف تسقط قيمته في "الآخرة"، عندما يقوم الناس
لرب العالمين.. فهل أنتم مُنتهون؟!