ذكرني الأستاذ محمد النفياوي أحد المقربين من النائب الراحل فكري الجزار، الذي كان صاحب مواقف مشهودة تحت قبة البرلمان على مدى عدة عقود والذي وصفه جمال عبد الناصر بالفلاح الفصيح؛ فأصبح قرينا باسمه، عندما بث على مواقع التواصل لقطات من تسجيل قديم تم تصويره للقاء جماهيري حضره وفد من الصحفيين عقب أزمة القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ بدائرة النائب فكري الجزار بمركز قطور بمحافظة الغربية، لتأييد إعادة ترشيحه باعتباره من أبرز النواب الذين رفضوا صدور هذا القانون المعروف بقانون حماية الفساد، الذي شكل عدوانا سافراً على حرية الصحافة بل ويستهدف اغتيالها، وهو النائب الذي شاركنا أيضا في حضور أعمال الجمعية العمومية التاريخية في العاشر من يونيو ٩٥.
كان يرأس هذا الوفد النقابي العظيم كامل زهيري الذي لعب دورا كبيرا في كشف عوار هذا القانون، ولفت إلى مكامن خطورته ولم يتخلف على مدى عام كامل عن الحضور في كل اجتماعات الجمعية العمومية، بل وكل الاجتماعات التشاورية داخل وخارج النقابة.
كنت شاهدا على تفرغه الكامل ورفضه السفر خارج مصر أو لأخذ استراحة ولو لعدة أيام خارج القاهرة في شهور الصيف وكان يقول: "إذا كانت عندك قضية وتريد أن تكسبها فلا يكفي فقط عدالتها، بل يجب أن تحضر أوراقك وترتبها وتملك منطقك القوي وحجتك في مواجهة ترزية القوانين من العقوبيين، وليس من الحقوقيين، و تعرف كذلك كيف تستخدم كل أوراق ضغطك وتعظمها". وفعلاً ظل على مدى عام يحضر أوراق دفاعه ضد جريمة من طبخوا بليل هذا القانون، وأذكر أنه اتصل بالدكتور سعيد الجمل أستاذ القانون وشقيق الدكتور يحيى الجمل والذي ساندنا في موقفنا، وكان يقضي بضعة أسابيع في الساحل الشمالي، وطلب منه المرور على كلية الحقوق بالإسكندرية؛ ليحصل على نسخة من رسالة علمية تمت مناقشتها حديثا عن "حرية الصحافة وقوانين النشر"، وفعلا كانت بعد عدة أيام في يده يطلع عليها ويرى كيف نستفيد منها، وظل حتى نهاية الأزمة يقدم مرافعاته خلال اجتماعات الجمعية العمومية أو أمام من يلتقيهم من مسئولين في مناسبات مختلفة، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية، ومنهم اجتماع كان الثاني لمجلس النقابة معه برئاسة إبراهيم نافع قبيل انتهاء الأزمة، لكن هذه المرة بحضور النقباء وأعضاء المجلس السابقين، وخلال هذا الاجتماع قاطع مبارك كامل زهيري قبيل انتهاء مرافعته: "خلاص يا كامل أنت حاصرتني!".
لقد سعدت برفقتي له خلال هذه الزيارة وملازمتي له عن قرب طوال عام. هذه الأزمة التي تعلمت منه فيها دروسا نقابية كثيرة، وذلك رغم معرفتي القريبة به التي سبقت ذلك بسنوات وتواصلنا الدائم الذي لم يكن ينقطع . لقد شاهدت كامل زهيري في هذا المؤتمر الجماهيري في قطور، وهو المثقف العظيم خطيباً مفوها أمام جمهور أغلبه من أبناء الريف في دائرة الفلاح الفصيح يحدثهم عن حرية الصحافة ببلاغة وبساطة ملهمة، جعلتهم يرددون وراءه بحماس شديد: "عاشت حرية الصحافة" بل إنهم اندفعوا نحوه والتفوا حوله بعد انتهاء المؤتمر وكادوا يحملونه!! ذهبت إلى هذا المؤتمر ممثلا عن مجلس النقابة، وأحمل معي شهادة تقدير قرر مجلس النقابة منحها لكل النواب الذين عارضوا صدور هذا القانون، وكان بعضهم يخوض معركة إعادة انتخابه لدورة جديدة من انتخابات مجلس الشعب، وضم هذا الوفد عددا من أعضاء الجمعية العمومية، التي لعبت دورا محورياً في هذه المعركة منهم الزميل الراحل موسى جندي الذي خاض كثيرا من المعارك النقابية، والزميل أحمد طه النقر الذي كان أول من اقترح أن يكون العاشر من يونيو يوما للصحفي يحتفل به سنويا، ومن أعضاء الجمعية أيضاً الزملاء ثروت شلبي ومحمد بسيوني وأحمد المسلماني، الذي كان أصغر المنضمين لعضوية النقابة ومن القريبين لدائرة فكري الجزار. وأذكر أنه في أول اجتماع للجمعية العمومية بعد هذه الزيارة قدمت تقريرا للجمعية (كنت أقدمه دورياً للجمعية العمومية بصفتي مقررا للجنة المتابعة) عن تفاصيل ما تم من أنشطة، ومنها هذه الزيارة لدائرة الفلاح الفصيح وفيها أطلقتُ لأول مرة تعبير "نقيب النقباء" على كامل زهيري وضجت القاعة بالتصفيق، فأدركت عندها أنه قد حاز على هذا اللقب عن جدارة باعتماد الجمعية العمومية له.
تحية لروح هذا النقابي العظيم في ذكرى هذه المعركة التي جرت من ٢٩ عاما مضت، ولرموز وطنية أدركت أن العدوان على حرية الصحافة هو عدوان على إحدى الحريات العامة التي هي حق لكل مواطن في المشاركة والتعبير؛ومنها النائب الراحل فكري الجزار، وتحية لكل الذين لعبوا أدوارا مهمة وملهمة خلال إدارة هذه المواجهة الكبرى التي كلما كتبت عنها في أي مناسبة أكتشف أنه لم يكتب عنها بعد بما تستحق!