بلسان الناصح الأمين..وجَّه السفير السابق فوزي العشماوي رسالة مُقتضبة إلى الرئيس. الرسالة تضمنت بنودًا ثلاثة، أولها: الوطن في حاجة ماسَّة لتغيير السياسات وليس الاشخاص، وثانيها: الوطن في حاجة ماسَّة لتغيير جذري للأولويات، وثالثها: الوطن في حاجة ماسَّة لحكومة مستقلة ذات صلاحيات دستورية وتتحكم في موارد الوطن.
يرى العشماوي –الذي ينطلق من أرضية وطنية خالصة- أن هذه المحاور كفيلة بعبور الوطن لأزمته الحالية التي لن يصلح معها ذات السياسات والشخصيات والأولويات التي طُبقت خلال الأعوام العشرة الماضية، كما يؤمن بأنها تكفل في الوقت ذاته ضمان أمن واستقرار وتقدم الوطن وأمن وسلامة واستقرار النظام! الاعتراف بأننا في أزمة حقيقية هو بداية الطريق للرغبة في الإصلاح، أما إنكارُها فسوف يقودنا في الأخير إلى سيناريوهات أكثر تعقيدًا، لن يتحمل أوزارها سوى المواطنين الأشد فقرًا.
واقع الأمر يؤكد أنَّ هناك مئاتٍ أو آلافًا مثل "العشماوي"، من الخبراء والمفكرين والأكاديميين ممن يمتلكون رؤي حصيفة، ويطرحون آراءً جادة، لا يهدفون من ورائها سوى الإصلاح ما استطاعوا، ولكنهم يعدمون الوسيلة، وإن امتلكوا الشجاعة وصدحوا بها، فإنَّ أحدًا من أهل الحل والربط لا يعيرهم اهتمامًا، وربما وجدوا أنفسهم في مرمى التجريس والتدليس من "موسى" و"الديهي" ورفاقهما. حالة التهميش التي تم فرضها على أمثال "العشماوي"، وهم كُثر، لم تكن في صالح هذا الوطن على أي حال. تجاهل "العشماوي" وأمثاله وتقزيمهم، في مقابل التمكين لآخرين فارغين من كل شيء، وأي شيء ذي قيمة، ظاهرة بالغة السوء والتردي. الدول الهشَّة فقط هي التي تحتفي بالصغار وتعظم من شأنهم وتمنحهم كل الفرص، وتسخر من الكبار وتزدريهم وتهيل عليهم التراب.
بالعودة إلى "نصيحة العشماوي".. فإن أحدًا لا يختلف على وجاهتها ونُبلها وحِكمتها..ووطنيتها. تغيير السياسات والإستراتيجيات التي قادت إلى أوضاع اقتصادية صعبة لا بد من التراجع عنها فورًا وتصويب مساراتها. ليس من العقل أن يكمل الإنسان في طريق قاده من قبل إلى التيه والضياع. المقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج كارثية. تغيير السياسات يتطلب أولاً وقبل أي شيء التخلي عن مركزية القرار. تابع المصريون مؤخرًا كارثة الحجاج المصريين، وكيف التزمت الحكومة الصمت أيامًا ولياليَ، حتى عاد الرئيس بسلامة الله من أداء فريضة الحج، وكلفها بتشكيل لجنة لإدارة الأزمة. الأمر ذاته تحقق في واقعة أقل بؤسًا، وهي واقعة تعرض ضريح الشيخ الشعراوي لتسرب مياه الصرف الصحي، حيث ظل محافظ الدقهلية معتكفًا في مكتبه حتى عاد الرئيس من أداء الفريضة، ليكلف بالترميم العاجل والسريع للضريح! هاتان واقعتان صادمتان تكشفان بجلاء كيف تدار الأمور في وطن عظيم وكبير مثل مصر!
منذ سنوات ليست قليلة، وقبل أن نصل إلى ما وصلنا إليه.. تحدث كثيرون جدًا من أهل الرأي والعلم عن ضرورة ترتيب الأولويات، مشددين على أن هناك أمورًا أولى بالإنفاق والبذخ من غيرها، وهو ما لم يحدث. ولأن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله..وجب مراجعة ما تم وجرى، والنظر بعين الاعتبار إلى معادلة "ترتيب الأولويات"؛ لوقف الاستنزاف الكبير الذي حدث، وسوف يتكرر ويتعاظم، إذا أصررنا على المُضي قدما في الطريق ذاته.
وقبيل أن تؤدي الحكومة الجديدة برئاسة رئيسها القديم الدكتور مصطفى مدبولي اليمين الدستورية..يبقى السؤال المهم: كيف تم تشكيلها واختيار أعضائها ومَن الذي اختارهم وما الأسس التي تم اعتمادها في الاختيار؟ التسريبات في هذا الشأن تؤكد أنه لا جديد يُذكر ولا قديم يُعاد، ولا تزال عملية الاختيار كما هي. ليس في مصر وزراء يملكون قرارهم، إنما يتلقونها ولا يملكون حق مناقشتها. مصر تستحق –كما يطرح "العشماوي"- حكومة مستقلة ذات صلاحيات دستورية حقيقية قادرة على اتخاذ القرارات بما يتوافق مع مصلحة البلاد والعباد، وبما ييسر عليهم حياتهم، وليس تضييقها ومغازلتهم بأحلام مؤجلة، أثبتت التجارب أنها تستعصي على التحقق.