كتب - أحمد عبادي
"أصر على أن جميع محاولات إعاقة موظفي هذه المحكمة أو تخويفهم أو التأثير عليهم بشكل غير لائق يجب أن تتوقف فورا"، كان هذا التصريح الصادر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان غامضا في حينه، حيث لم يكشف خان عن الجهات التي تمارس هذا التخويف، وإن كان التلميح مفهوم ضمنا لجميع المهتمين بالشأن العام السياسي والدولي، حيث تشير أصابع الاتهام إلى دولة الاحتلال الإسرائيلية ومن وراءها الحليف الأمريكي الذي يغطي دائما على جرائمها.
ولم تمض عدة أيام حتى تحول التلميح إلى قنبلة إعلامية فجرتها صحيفة "الجارديان" البريطانية بنشرها تحقيقا كشفت فيه جرائم الموساد الإسرائيلي في حق مسئولي المحكمة الجنائية الدولية، خاصة التهديدات التي تلقتها المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، لإغلاق تحقيق كانت قد شرعت في إجراءه بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية السابقة في غزة والضفة الغربية، مستعرضة ضغوط رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين عليها، من أجل إغلاق ملف التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية خلال السنوات السابقة.
*الجارديان تفضح المؤامرة الصهيونية ضد الجنائية الدولية
ويبدو أن إعلان كريم خان، والذي تولى منصب المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية خلفًا لبنسودا، عن نيته إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار، من بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كلمة السر في ظهور هذا التحقيق للنور، حيث قال خان خلال ذات الإعلان، إنه "إذا استمر هذا الوضع فلن يتردد مكتبه في التصرف"، فهل كان ذلك التحقيق جزءا من تصرف مكتب خان.
ويستند التحقيق الذي أجري بالاشتراك مع مجلة +972 الإسرائيلية- الفلسطينية، ومجلة Local Call الناطقة بالعبرية، إلى مقابلات مع أكثر من 24 من ضباط الاستخبارات والمسؤولين الحكوميين الإسرائيليين الحاليين والسابقين، وكبار الشخصيات في المحكمة الجنائية الدولية، والدبلوماسيين والمحامين.
وقال متحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية، اتصلت به "الغارديان"، إنه على علم "بالأنشطة الاستباقية لجمع المعلومات الاستخبارية التي اضطلعت بها عدد من الوكالات المعادية للمحكمة" وفق وصفه.
وقال كذلك إن المحكمة الجنائية الدولية تنفذ باستمرار تدابير مضادة ضد هذا النشاط، وإن "أيا من الهجمات الأخيرة التي شنتها عليها وكالات الاستخبارات لم تخترق الأدلة الأساسية للمحكمة، التي ظلت آمنة".
وكشفت الجارديان في تحقيقها أن المخابرات الإسرائيلية اعترضت اتصالات العديد من مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، بمن فيهم خان وسلفه في منصب المدعي العام، فاتو بنسودا، سواء كانت الاتصالات مكالمات هاتفية أو ورسائل نصية أو البريد الإلكتروني والوثائق المرفقة به.
وكشفت الصحيفة البريطانية أن المراقبة كانت مستمرة منذ نحو عقد وحتى الأشهر الأخيرة، مما جعل رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتانياهو، على معرفة مسبقة بنوايا المدعي العام.
*ضغوط الموساد بين محاولات التجنيد والتهديد
وكشف التحقيق أن رئيس الموساد يوسي كوهين التقى سرا مع فاتوا بنسودا، في السنوات التي سبقت قرارها فتح تحقيق رسمي عام 2021 للاشتباه في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، حيث سعى رئيس الموساد إلى تجنيد المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية كشخص يتعاون مع مطالب إسرائيل، وقال لها «يجب عليك مساعدتنا ودعينا نعتني بك».
وأشار التحقيق إلى أن محاولات التجنيد صحبها تهديد مباشر من رئيس الموساد لمدعية العامة للمحكمة حيث حذرها قائلا: «لا نريد التورط في أشياء يمكن أن تعرض أمنك أو أمن عائلتك للخطر»، كما وضع الموساد أسرة المدعية العامة تحت المراقبة وحصلوا على نصوص المحادثات بين بنسودا وزوجها في محاولة لاستخدام هذه المحادثات لتشويه سمعتها.
وقالت الجارديان في تحقيقها إن كوهين، الذي قاد الموساد في الفترة 2016-2021، استخدم تكتيكات حقيرة ضد المدعي العام السابق، حتى أنه كان لديه اتصالات متكررة شملت تهديد بنسودا بين عامي 2017 و2021، وقد وصلت تلك التهديدات لحد المطاردة لمحاولة إقناعها عدم التحقيق مع إسرائيل.
*الموساد يستخدم "كابيلا" في الضغط على بنسودا
وبيَّنَ تحقيق الجارديان أن "إسرائيل تلقت دعما من الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية، جوزيف كابيلا، الذي لعب دورا في عملية الضغط على بنسودا".
وقالت الجارديان إنه "في أحد اللقاءات الأولى، فاجأ كوهين، بنسودا، عندما ظهر بشكل غير متوقع خلال اجتماع رسمي كانت المدعية العامة تعقده مع جوزيف كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية آنذاك، في جناح فندق في نيويورك.
وقالت مصادر مطلعة على الاجتماع إنه بعد أن طُلب من موظفي بنسودا مغادرة الغرفة، ظهر مدير "الموساد" فجأة، وبعد الحادث الذي وقع في نيويورك، استمر كوهين في الاتصال بالمدعية العامة، دون سابق إنذار و"أخضعها" لمكالمات غير مرغوب فيها.
وقالت المصادر إن سلوك كوهين، وإن كان وديا في البداية، أصبح يشكل تهديدا وتخويفا على نحو متزايد، وكان كوهين، وهو حليف مقرب من نتانياهو في ذلك الوقت، قائدا تجسسيا مخضرما وقد اكتسب سمعة في الخدمة بوصفه مجندا ماهرا للعملاء ذوي الخبرة.
*الضغط الأمريكي.. ورقة إسرائيل الأخيرة في مواجهة الجنائية الدولية
وبحسب تقرير الصحيفة، أشار بلاغ تم اعتراضه مؤخرا إلى أن خان أراد إصدار أوامر اعتقال ضد الإسرائيليين، ولكنه خضع ل "ضغط شديد من الولايات المتحدة"، وفقا لمصدر مطلع تحدث للغارديان.
وفي هذا السياق قال المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو للجزيرة إن ضغوطا قوية تمارس على المحكمة بعد إعلانها اليوم، مشيرا بذلك إلى طلب المدعي العام كريم خان إصدار أوامر باعتقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين لمسؤوليتهما المباشرة عن قتل عشرات الآلاف وتجويع السكان المحاصرين في قطاع غزة.
وكشف أوكامبو أن الضغوط الإسرائيلية والأمريكية لم تقتصر على بنسودا وخان فقط، مشيرا في مقابلة مع قناة "الجزيرة" إلى تعرضه هو أيضا لضغوط من واشنطن أثناء شغله منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية.
واستمرارا للسياسة الأمريكية المتمثلة في حماية إسرائيل بالضغط وإرهاب المنظمات الأممية، أفادت تقارير صحفية أن البيت الأبيض ووزارة الخارجية يجريان مشاورات مع الجمهوريين والديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ بشأن الإجراء المحتمل ضد المحكمة الجنائية الدولية.
وأوضحت التقارير أنه بينما يضغط الجمهوريون من أجل فرض عقوبات أمريكية صارمة على المدعي العام ومسؤولين آخرين في المحكمة الجنائية الدولية، فإن الديمقراطيين يريدون استكشاف خيارات أخرى.
وكان وزير الخارجية أنتوني بلينكن أشار في جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأسبوع الماضي، إلى أن إدارة بايدن ستدعم الإجراء الذي يتخذه الحزبان في الكونجرس ضد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لكن منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي قال في مؤتمر صحفي إن العقوبات "ليست الحل الصحيح" للتعامل مع أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، وأضاف أن الإدارة تعارض هذا النهج.
وقد قال البيت الأبيض، أمس الثلاثاء، إنه لا يؤيد فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بعدما طلب المدعي العام فيها إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفق ما نقله موقع "أكسيوس".
*مكتب نتنياهو "المهووس" يكذب الجارديان
وأكد تقرير "الجارديان" أن عمليات الاستخبارات الإسرائيلية ضد المحكمة الجنائية الدولية حظيت باهتمام خاص من نتنياهو، إذ وصفه أحد مصادر الاستخبارات بأنه "مهووس" بشأن تلك القضية.
ولفتت الصحيفة في هذا السياق، إلى أن العملية السرية ضد بنسودا، كانت تدار شخصيا بواسطة حليف نتنياهو المقرب يوسي كوهين، الذي كان في ذلك الوقت مدير وكالة الاستخبارات الإسرائيلية.
وأوضحت الجارديان أنه وتعليقا على ذلك، قال متحدث باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في اتصال مع الصحيفة البريطانية، إن "الأسئلة المقدمة إلينا مليئة بالعديد من الادعاءات الكاذبة التي لا أساس لها، والتي تهدف إلى إيذاء دولة إسرائيل"، فيما لم يستجب كوهين لطلب التعليق، ورفضت بنسودا التصريح بأي تعليق في الصدد.