هنا القاهرة ينطلق صوت المذيعة من مذياع جدتي في تمام السادسة، وكأن هناك رابطا ما بين نداء الإذاعة واستيقاظ جدتي وكأن المذيعة حلت ضيفا في نهاية حلم جدتي لتوقظها.
كانت جدتي تغلق باب غرفتها بإحكام عند ذهابها للنوم. من المستحيلات السبع أن ترى مريم حينما تستيقظ.
لا أستطيع أن أتخيل كيف يبدو مظهرها وشعرها غير مرتب هل تتقلب يمينا ويسارا أثناء نومها؟ هل يرفع ثوبها لأعلى وتنكشف ساقاها؟. هل وجهها يكون هادئا ومستسلما أثناء النوم أم تحتفظ بشموخها كما في أوقات صحوها.
أشك أن جدتي تنعس في الأساس. لا أعرف كيف تبدو تفاصيل جسد مريم فهي دوما ترتدي أثوابا لا تبرز مفاتنها. أنا الوحيدة المسموح لي أن أجلس أمام باب غرفتها صباحا في انتظارها كانت تحبني كثيرا وإن كانت لا تعبر بالكلمات ولكن أفعالها تخبرني.
كنت أرتدي فستاني المزركش بالنقوش الفرعونية التي أحضرته لي مريم وأجلس متربعة أمام باب غرفتها
استرقت النظر ذات مرة من فتحة بابها وجدتها ترفع شعرها الأسود الكثيف لأعلى وتكحل عينيها ثم نهضت فجأة. أسرعت مبتعدة قليلا وعدتمترادفات لجلستي مرة أخرى. تفتح مريم بابها حاملة مشط خشبية في يدها وتجلس خلفي وتبدأ بتصفيف شعري وتضفره لأصيح غاضبة: جدتي أنا لا أرغب في تلك الضفائر وجدت الفلاحة بالأمس تمشط شعر ابنتها وتضفره هكذا وأنا لست بفلاحة أنا حفيدة مريم. صفعتني مريم وقتها ونهضت غاضبة ذهبت لغرفتها ولم أرها حتى- صباح اليوم- التالي مع نداء (هنا القاهرة) خرجت وجلست خلفي ومشطت شعري وحينما بدأت في تقسيم شعري لخصلات أدرت وجهي إليها وأومأت برأسي موافقة مبتسمة- لأول مرة- تغمرني مريم بحنان شديد وأغوص في أحضانها لقد سكنتني مريم وأنا سكنتها منذ تلك اللحظة وأسميتها (أنا) .
كنت دوما أسأل أمي أين جدي؟
كيف لمريم أن تحمل كل هذا العبء وحدها؟ كيف أتت بنا إلى هذا العالم دون رجل في اليوم التالي ذهبت للمقرأة وكان يتلو علينا شيخنا ما تيسر من سورة مريم لمعت عيني نهضت مسرعة أخذت في العدو ودقات قلبي يكاد يسمعها سكان الحي المجاورحتى وصلت لبيتنا وكانت أمي تعد الطعام مسكت بذيل جلبابها حتى التفتت إلي.
نظرت لعينيها- في ذهول- وكأني عرفت الحقيقة التي تخفيها عنا مريم: أمي لقد حدث لجدتي نفس ما حدث لمريم العذراء جدتي ما زالت عذراء أفلتت أمي غطاء الإناء من شدة الضحك لقد سمعت صوت ضحكة مريم- لأول مرة- وصوت ضحكات عماتي وخالتي وكأن جدران بيت العائلة اهتزت من شدة الضحك فأخذت في البكاء بشدة وكلما ضحكوا أكثر زادت نوبة بكائي غاضبة: إذن أين جدي؟
أريد جدي. حينما تحضر سيرتنا يلقبوننا بأبناء مريم أحفاد مريم وحينما يدلون الأغراب على عنوان يقولون أمام بيت مريم خلف بيت مريم أين جدي؟ أريد جدي
كان يوجد تلفاز كبير في صالة مريم. تفرش حصيرة كبيرة أمامه وتجلس في المقدمة ويجلس خلفها أبناء عمي وعماتي وخالاتي وأشخاص تخبرنا مريم أنهم من سلالتنا التي لا تنتهي. أنا الوحيدة التي كنت أجلس بجوارها واضع رأسي على قدمها حتى أغفو نشاهد أفلاما بالأبيض والأسود نضحك تارة ونبكي تارة كبرنا عدة سنوات ومازالنا نجلس حول مريم. مرت سنوات وتحولت صورة أفلامنا من الأبيض والأسود إلى الألوان كل شيء صار أسرع. لم يقطع حبل أفكارنا هذه المرة سوى صوت جلبة عمال ببيتنا. نهضنا مفزوعين جميعا لنرى ماذا يحدث. لقد عاد عمي من الخارج وقرر بناء جدار في منتصف البيت وأخبرنا أن بناته لا يمكن أن تختلط بمثلنا وأخذ يصرخ في مريم أن تغلق التلفاز ولا تضفر شعري. وعمى الآخر يمسك بفأس كبير ويريد هدم جميع الجدران ويطالب مريم بخلع ثوبها وارتداء أزياء تواكب العصر ونظر الي شزرا وجذبني بقوة من ضفيرتي وحاول فكها وأخذ يصرخ فينا: كفاكم تخلف. جذبتني مريم اليها بقوة- لأول مرة- أرى دموع مريم. كلما زاد صراخهم كلما اقتربت مني أكثر وضمتني أكثر. أدخلتني منزلها وأغلقنا بابنا وأجلستني على الأرض أمام التلفاز وجلست خلفي وأخذت تضفر شعري وقلبي يعتصر من صوت أنفاسها الباكية لينبعث صوت سيد درويش من التلفاز وكأنه يشاركنا البكاء (أهو ده اللي صار وادي اللي كان ملكش حق تلوم عليا مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب) كبرنا حول مريم ازداد عددنا. كلا منهم أصبح يمسك بطرف ثيابه أو يجلس على قدميه صغير يشبهه. كل سنة وربما كل شهر كل يوم كل لحظة ينهض واحد منهم يمسك بيد صغيره ويقبل يد مريم ويرحل. غطى الشيب ضفيرتي وما زال سواد شعر مريم كما هو. ترك الدهر بصمته على ملامحى وهيئتي ومازلت مريم شابة بكامل عنفوانها. ماتت أمي وعماتي وخالتي وأعمامي الكل فاني ومريم باقية. مريم طمأنتني أنهم سوف يعودون لا محالة أخبرتني كما نسلك الطرقات الطرقات
تسلكنا كلانا حفر ذكرى في الآخر كِلانَا سكن الآخر . وضعت رأسي على قدمها احتضنت يدها وقبلتها وأغمضت عيناي وأنا أردد : الكل غادر يا أنا إلا أنا
مريم عذراء طاهرة لا يمسسها بشر. لا أريد جدي فمريم بالعالم أجمع . الجميع ما بين ذهاب وإياب ومريم دوما حاضرة
دون سابق إنذار وفي غير موعدنا المحدد انبعث صوت المذياع بقوة ليعلن