رئيس مجلس الادارة: نجلاء كمال
رئيس التحرير: محمد أبوزيد
advertisment

د. رشا ضاهر تكتب : حكاية طفولتي

المصير

الثلاثاء, 30 إبريل, 2024

10:59 م

أول عام دراسي لذات الست سنوات.. لم يعلم أحد شيء عن عالمها الطفولي الخفي . ميزها الله عن كافة خلقه .بعث معها هدية حملتها بيدها اليسرى ..حاشا لله أن يكون في خلقه عيب..أجريت عمليات عدة بالكاد صار كعب قدمها يلامس الأرض.. كانت تنزوي في غرفتها تنظر ليدها اليسرى.. أصبعان ملتصقان اسمتهما (الجدة بثينة ) اسم جدتها التي أحبتها كثيراً والأصبع الثالت المبتور اسمته مع باقي أصابع يديها مابين أسماء أولاد وبنات وكأنهم أحفاد الجدة ثم تبدأ لعبة كل يوم مع الجدة وأحفادها بإختراع أحاديث ومواقف. وحيدة في غرفتها . كانت تخبيء يدها خلفها أو داخل جيب مريلتها الصغيرة ..تقف في آخر الطابور حتى لا يلمح أحد أن كعب قدمها لا يلامس الأرض رغم وعودها الكثيرة لأمها وأبيها ألا تفعل ذلك ثانية وستواجه الأمر بكل شجاعة . نظرات الأطفال وأسئلتهم البريئة الساذجة كانت تؤلمها (دي حادثة؟ يا ماما ايه ده؟ أنا بخاف من شكل ايدك اوي )


‎وحينما يشاء القدر أن تكون في منتصف الطابور كانت تشعر أن لها عيون في مؤخرة رأسها بين عنقها والجمجمة تراقب بحذر نظرات المتربصين الواقفين خلفها وهم يتأملون في فزع فروع الأشجار التي نقشها مشرط الجراح على قدميها وتركها ذكرى تحيا معها حتى نهاية العمر .

بعد كل مواجهة كانت تنزوي في غرفتها باكية دون أن يشعر بها أبيها وأمها حتي لا يوبخونها ويتهمونها بالضعف .
‎ كانت تشاهد راقصات البالية يقفن علي أطراف أصابعهن مثلها .. تحاول تقليدهن وترقص وترقص ..تضحك بصوت عالي ضحكات طفولية مليئة بالبهجة تغمض عينيها وتدور حول نفسها تشعر وكأنها فراشة حتى تصاب بالدوار تقع فوق الأريكة وتحتضن أمها ..وتقبل أمها جبينها


‎ تتذكر ذلك اليوم الملعون بكل تفاصيله حينما ذهبت لشرب المياه ثم أخذت تعدو في فناء المدرسة مسرعة حتى تلحق بالحصة الرابعة تتذكر شكل السلالم والدرابزين الأخضر الذي كانت تقبض عليه بيدها وهي تصعد الدرج مسرعة لكي يحفظ اتزانها واخدت تعدو بالطرقة المؤدية لفصلها وما أن لمست مقبض الباب حتى سمعت المعلمة تقول المركز الأول حصلت عليه الطالبة فلانة وذكرت اسمها بدون اسم والدها.. نهضت طالبة اخرى تحمل نفس الإسم فأجابتها المعلمة (لا مش انتِ فلانة أم صوابع مقطوعة فين ؟ ) تسارعت دقات قلبها وانفاسها اللاهثة من شدة البكاء شريط ذكرياتها المؤلمة مر أمامها بسرعة شديدة ...قطار يجري فوق قضبان حديديةو يصدمها . الدرابزين الأخضر مضخات الأكسجين ..قفاز الطبيب ..صوت أنفاسه ...صوت الصمت المرتعد
‎مشرط الجراح صوت همس الممرضات ابتسامة طبيب التخدير.. اغمضت عيناها ثم مسحت دموعها مسرعة حتي لا تُظهر ضعفها .لم تترك أي دليل على بكائها سوى قطرة دمع تساقطت على قميصها الأبيض فبللته .


‎بعد مرور يومين ومازال الحزن الذي لا تعرف عنه غير وخزة القلب التي شعرت بها ..لا تعلم حتى مسماه فهي صغيرة بما يكفي ولا تعلم شيئأً عن تلك المشاعر المقبضة سوى إحساسها بها .


‎حصة التربية الدينية بدأت.. استمعت للمعلمة تقول بصوت عالي ( الله جميل يحب الجمال الله لا ينسانا أبداً ).. وقفت بكل براءة صائحة كيف يكون جميل وخلق يدي بهذا الشكل؟ ..كيف لا ينسانا ونسى أصابعي ؟وهل الملائكة تحتفظ بهم وحين أذهب اليه سأستردهم مرة ثانية كما أخبرتني أمي ؟


‎تبتسم المعلمة وتذهب اليها وتحتضن يدها اليسري بكلتا كفيها بكل محبة مجيبة الكمال لله وحده وإن كان هذا ليس نقصان ولكن الله منحنا طفلة متفوقة في دراستها تُضحكنا وتلقي الشعر في هذه السن الصغيرة بمنتهى المهارة اليس هذا كافياً؟ أما بالنسبة للملائكة سيحملونها ويضعون التاج الذهبي فوق رأسها بعد أن ترتدي الفستان الأبيض وتحمل الزهور وسيكافئونها بالجنة وبألعاب كثيرة لأنها كانت قوية وراضية وتعلمت أن لا تخفي يدها وتواجه إختلافها كما نصحتها أمها.. قبلتها معلمتها علي جبينها ..


‎ مرت أيام وجاءت طالبة جديدة للصف أمرتها المعلمه أن تجلس بجوارها .. بمجرد أن لاحظت قدومها اخفت يدها ثم تراجعت ودقات قلبها تتسابق لتستعد للمواجهة من جديد وتردد على مسامعها كلمات أمها (أنتِ زي كل الناس .لا إنتِ اشطر وأحسن منهم كلهم .أنتِ مميزة) فردت يدها فوق الطاولة متعمدة لكي تراها شريكة المكان وتذهب لساحة الحرب بنفسها ولا تنتظر قدومها . جلست زميلتها ونظرت ليدها نظرة عابرة تعمدت اخفاءها وابتسمت وقالت لها. ( ازيك انا معرفش حد هنا ممكن نبقي أصحاب؟ انتِ أسمك إيه؟) فأجابتها رشا وانتِ؟ رانيا لم يقطع ابتسامتهما سوى صرخة المعلمة ( ممنوع الكلام بصوا علي السبورة )
‎ حرب كانت ستُشن ولكن بعث الله بجنوده الطيبين لتهدأ عواصف نبضها .القوا بسحابة سلام وسط المكان وايديهم الحانية تربت على كتفها تخبرها بأن كل شيء على ما يرام .. اللهم ابعد عنا القاسية قلوبهم وارزقنا بمن نفخت في أرواحهم من عظيم رحماتك وجميل نفحاتك