ليس هناك وقت أنسب من قراءة سورة "الفاتحة" على روح دولة التلاوة المصرية أفضل من الآن؛ فكما تقول العرب: "بلغ السيل الزبى، واتسع الخرق على الراتق". أحوال دولة التلاوة المصرية لا تسر حبيبًا ولا صديقًا. غربان استوطنت دكة التلاوة، وفرضت كلمتها، وبسطت سيطرتها. لا صوت ولا أداء ولا حفظ، ولا حتى قدرة على القراءة من المصحف المفتوح!
واقعة القاريء الشيخ محمد السلكاوي أثناء تلاوة قرآن الفجر قبيل أيام قليلة كاشفة لواقع بائس وصلنا إليه بإرادتنا، ونخطو إلى ما هو أسوأ منه.
أخطأ الرجل نحو 20 خطأ في صفحة واحدة من المصحف المفتوح. ورغم محاولات التصحيح والإفاقة من موظف إدارة التخطيط الديني إلا إن جميعها باء بالفشل!! يا للهول..قد يخطيء القاريء أو يسهو في موضع أو اثنين غيبًا، ثم سرعان ما يتدارك الخطأ. كبار قراء مصر في عصرها الذهبي كانوا مكفوفين، ورغم ذلك كانوا أحفظ من غيرهم وأعظم إتقانًا، وبعضهم قيل عنه: لم يخطيء أبدًا في تلاوة مًحكم التنزيل!
لم تكن هذه هي الواقعة الأولى لـ"السلكاوي"، فالرجل يمتلك سجلاً حافلاً بالأخطاء خلال وقت قياسي، ولكن يبدو أن له ظهرًا وسندًا وصهرًا ونسبًا في الإذاعة!
وينافسه في مضمار الأخطاء أثناء التلاوة من المصحف المفتوح آخرون مثل: حلمي الجمل ومحمد الطاروطي.
واللافت أن أكثر القراء أخطاءً وخطايا أثناء التلاوة هم أكثرهم ظهورًا في تلاوات البث المباشر، وأكثرهم قربًا من وزير الأوقاف!
"سوق التلاوة جبر"؛ والأسباب كثيرة، ولكن أبرزها دخول المجاملات الصارخة مجال اختبارات واختيارات قراء القرآن الكريم..ودع تحت عبارة "المجاملات الصارخة" ما تشاء من خطوط!
لجان الاستماع الموحد تخلت عن دورها تمامًا، ولم تعد تضطلع بمسوؤليتها على النحو الجاد والمثالي، وفتحت الباب واسعًا أمام جيلين أو ثلاثة من القراء غير الحافظين وغير المتقنين، ومن ذوي الأصوات الشائهة والتائهة والمتشابهة.
وكما تقول العرب: "بأضدادها تتميز الأشياء"، فإنني سوف أسرد لك باختصار ثلاثة مواقف كاشفة، سمعتًها إما من أصحابها وإما من شهود ثقات.
الواقعة الأولى بطلها المبتهل الشيخ سيد النقشبندي الذي ذهب إلى الرئيس محمد أنور السادات، وطلب إليه أن يتم اعتماده قارئًا بالإذاعة، فما كان من "فخامة الرئيس" الذي كان يستمتع بابتهالات النقشبندي، إلا أن أحال الأمر على اللجنة المختصة في ذلك الوقت، فجاء الرد مرتين بما يفيد أن "النقشبندي لا يصلح قارئًا"، وكان الرفض مدعومًا بحيثيات! ولم يغضب الرئيس ولم يفرضه بالقوة قارئًا..وكان يستطيع..ولكنه القرآن الكريم!
الواقعة الثانية بطلها القاريء الشيخ محمود الطوخي الذي قرأ أمام الرئيس الأسبق حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي، قبل اعتماده إذاعيًا، ورغم ذلك رفضت لجنة الاستماع الموحد إجازته، اعتمادًا على تلك التلاوة التي أبهرت المستمعين والمشاهدين يومئذ، وكانت شهرة الرجل قد طبقت الآفاق، ولم تفلح تدخلات السادة الكبار، وهم من هم، ولم يتم اعتماد الشيخ إلا بعد هذه الواقعة بسنوات، وبعد مثوله واختباره أمام اللجنة بـ"شحمه ولحمه وصوته"؛ انتصارًا للقرآن الكريم.
أما الواقعة الثالث فبطلها القاريء الطبيب صلاح الجمل الذي تم اعتماده دون اختبار وبالتمرير، بعد توصية من رئيس الوزراء في ذلك الوقت إبراهيم محلب، حيث كان "الجمل" مُحفظًا لحفيده، وبخضوع واستكانة من رئيس الإذاعة عبد الرحمن رشاد الذي كان يحلم بولاية جديدة، وباستسلام من اللجنة "الموقرة"، ولكن سرعان ما ارتكب "الجمل" حماقات صارخة دفعت مسؤولي الإذاعة فيما بعد إلى تجميده، ودخل "رشاد" غياهب النسيان، وصار نسيًا منسيًا، وكالعادة لم يبخل وزير الأوقاف برعايته لـ"صلاح الجمل"!
وخلاصة القول هو أنه عندما كانت هناك ضوابط صارمة في اختيار قراء القرآن الكريم، عرفت مصر أجيالاً من القراء العِظام الذين صنعوا لها مجدًا عظيمًا في فن تلاوة القرآن الكريم، وصدَّروه للعالم كله، بما فيه البلد الذي استقبله أول مرة، وطافت أسماؤهم العالم كله، ولا تزال أصواتهم تزين عديدًا من إذاعات الدول العربية والغربية.
عندما كان عدد سكان مصر ربع عددها الحالي أو أقل عرفت أصواتًا مثل: علي محمود ومحمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد والحصري والبنا والمنشاوي وآخرين، وعندما تضاعف عدد سكانها فقدت صوتها المميز وشخصيتها المتفردة في تلاوة القرآن الكريم،وحل قراء الخليج وإيران بديلاً للقاريء المصري!
مصر تمتلك أصواتًا طيبة وحفاظًا متقنين ولكنهم لا يملكون الشفرة السحرية لاجتياز لجان الاختبار التي أصبحت تتهاون بحق كتاب الله، خوفًا من وزير الأوقاف الذي توغل وتغول في هذا الملف بشكل سافر وغير مسبوق، وطمعًا في ملذات الدنيا ونعيمها الزائل، ولم يعد أمامنا سوى قراءة الفاتحة على روحها؛ لعل وعسى..!!