قبل 13 سنة وتحديدا في شهر فبراير 2011، وبعد موقعة الجمل الشهيرة بعدة أيام، علمت أنه تم تشكيل لجنة تقصي حقائق لجمع كل المعلومات الممكنة حول الهجوم الذي تعرض له المتظاهرين في ميدان التحرير صباح يوم 2 فبراير والمعروف إعلاميا ب"موقعة الجمل".
وقرأت أن اللجنة التي كان يترأسها المستشار عادل قورة طلبت من كل من لديه معلومة التوجه لمقر اللجنة وتقديم شهادته.
سألت زميلتي بصحيفة االشروق صفاء عصام الدين والتي كانت تغطى الملف الحقوقي في ذلك الوقت عن عنوان لجنة تقصي الحقائق، وساعدتني في الحصول عليه
وفي صمت تام ودون أن أخبر أحدا، توجهت لمقر اللجنة الكائن بمصر الجديدة وقدمت شهادتي على موقعة الجمل.
ملخص الشهادة
وشهادتي باختصار شديد هي أنني بحكم عملي كمحرر برلماني تواصلت معنا إدارة الإعلام بمجلس الشعب في ذلك اليوم وقالوا أن الدكتور فتحي سرور رئيس المجلس سيعقد اجتماعا مع المحررين البرلمانيين، ذهبنا لمكتبه وتحدث الرجل عن أن المجلس سينفذ كل الأحكام القضائية التي وردت من محكمة النقض والخاصة ببطلان عضوية العشرات من النواب، وفي أثناء الاجتماع سمعنا ولأول مرة أصوات متظاهرين تهتف للرئيس الراحل حسني مبارك وهي المرة الأولى التي يتم فيها الهتاف لمبارك منذ 25 يناير، وسأل الدكتور سرور عن مصدر الصوت فقال له مدير مكتبه" يا ريس دول أهالي السيدة بيهتفوا للرئيس ورايحين ناحية التحرير، واحنا مطلعين كارتات وأحصنة من نزلة السمان لميدان التحرير" وقال عفت السادات "واحنا عاملين تحركات مماثلة في الإسكندرية" وأكد على نفس المعنى، الراحل عبد الأحد جمال الدين زعيم الأغلبية السابق بالحرب الوطني".
كتبت كل هذه الوقائع في تقرير بصحيفة الشروق ولم يتم نشرها في ظل زحمة الأخبار في تلك الفترة.
وكان ذلك هو السبب الذي جعلني أبحث عن عنوان لجنة تقصي الحقائق من أجل إيصال تلك المعلومات لعلها تكون مفيدة في عملهم.
لم أكن أعرف مطلقا ماذا سيحدث بعد ذلك كنت أعتقد أنهم يجمعون معلومات من أجل الوصول للحقيقة، ولم أكن أتصور إطلاقا أنه ستكون هناك محاكمة كبرى تحت اسم موقعة الجمل
أخطر مواجهة في المحكمة
بعد أن أدليت بشهادتي حول ما أعرفه من معلومات عن موقعة الجمل، طلبوا مني في اللجنة التوقيع والبصم على شهادتي وشكروني بشدة على قيامي بواجب تقديم الشهادة.
انصرفت من مقر اللجنة موجها وجهي للسماء بأن يقبل الله مني الشهادة وأن تكون خالصة لوجهه تعالي وأن أكون أديت واجبي في تقديم معلومات تفيد عمل اللجنة.
كان الرئيس مبارك ما زال في السلطة، وكان الدكتور سرور ما زال رئيسا لمجلس الشعب ولم يكن قرار حل المجلس قد صدر بعد، ولم يكن مبارك قد تنحي بعد.
لم أخبر أحدا على الإطلاق بالأمر واعتبرت ما قدمته من معلومات هو واجب وطني وأخلاقي وديني لمساعدة اللجنة في جمع معلومات عن تلك الأحداث .
بعدها بعدة أسابيع وبعد تنحي مبارك، فوجئت بالقبض على الدكتور سرور والقبض على عدد كبير من قيادات الحزب الوطني وتوجيه لهم تهمة التخطيط لموقعة الجمل.
وبعد شهور تلقيت اتصال من المستشار محمود السبروت قاضي التحقيقات في قضية "موقعة الجمل" وقال لي " حضرتك الأستاذ محمد أبوزيد، قولتله أيوه يا افندم، فقال أنت فين أنا بقالي أسابيع بدور عليك ومش عارف أوصلك"
وعرفني بنفسه وطلب مني التوجه للتجمع الخامس للادلاء بشهادتي مجددا أمامه باعتباره قاضي التحقيقات في موقعة الجمل.
ذهبت وقلت نفس التفاصيل التي سبق وأن قلتها أمام لجنة تقصي الحقائق ولكن بصورة أكثر تفصيلا.
وبعد عدة أسابيع أخرى حدثت مواجهة هي الأهم والأخطر في حياتي وحياة الدكتور فتحي سرور الذي كان في قفص الاتهام ساعتها، حيث تم استدعائي باعتباري شاهد عيان في القضية، ولأول مرة في حياتي أقف أمام محكمة ولأول مرة يقف هو متهما وهو من هو، هو فقيه القانون الأبرز في ذلك الوقت، وواحد من أهم رموز مصر القانونية والسياسية.
المشهد كان خياليا بامتياز، لا يمكن وصفه ولا تخيله، أنا في محكمة لأول مرة في حياتي وفي مواجهة رئيس مجلس الشعب الذي كان يدير البرلمان بطرف إصبعه، وكل قيادات الدولة وحتى المعارضة بتعمل له ألف حساب وتكن له كل تقدير.
هو مشهد يشبه روايات أحمد خالد توفيق روايات ما وراء الطبيعة وعالم الميتافيزيقيا
سمحت المحكمة للدكتور سرور بالخروج من القفص الذي كان يضم كل المتهمين في القضية من أجل مواجهة شاهد العيان المتمثل في شخصي.
لم يتحدث الرجل في تلك المواجهة الاستثنائية عما ذكرته في شهادتي ، ولكنه قال بلغته العربية السليمة القوية "ألم يسبق لك وأن أرسل لك وزير الخارجية تكذيبا عن خبر نشرته في صحيفة المصري اليوم" ورأيت الدكتور سرور يحمل قصاصات صحف لأخبار كنت كتبتها من قبل.
أخطاء قاتلة
كان النزق الثوري قد ضًّللنا وأضلنا وكنا نعتقد أننا في ثورة يناير نمتلك الحق المطلق والحقيقة المطلقة وأننا ملائكة وغيرنا شياطين، كنت أتمنى أن أواجه الدكتور فتحي سرور في المحكمة وأقول له لقد تسببتم في إفساد الحياة السياسية، لقد فصلتم المادة ٧٦ من الدستور على مقاس جمال مبارك ليرث حكم مصر، أنتم من ساعدتم أحمد عز في طغيانه بقوانينكم ودساتيركم، كنت أتمنى أن أقول له الكثير، ولكني اكتفيت بالرد على اسئلته فيما يتعلق بواقعة تكذيب أحمد أبو الغيط وزير الخارجية السابق لخبر نشرته في المصري اليوم وكيف أنني تقدمت ضده وهو وزيرا للخارجية ببلاغ للنائب العام بتهمة السب والقذف "كانت الصحافة في ذلك الوقت لها صولجان وهيلمان وقوة وبريق وتأثير جعلت محرر مثلي يقدم بلاغ للنائب العام ضد وزير الخارجية"
بكيت ندما عليه حينما رأيت علي عبد العال
بعد أن انتهت المواجهة الرهيبة بيني وبين الدكتور سرور في المحكمة، مرت أيام و أسابيع وشهور، وانتهت القضية والمحاكمة ببراءة كل المتهمين لعدم كفاية الأدلة، وخلال تلك الشهور الطويلة كنت أظن وأعتقد أن الدكتور سرور من الذين أفسدوا الحياة السياسية في مصر، مع أنني لم أكن أتوقع أن شهادتي عما حدث في مكتبه سيكون لها تلك التبعات، ولم أكن اتخيل أنه سيتم القبض عليه في يوم من الأيام، فأنا اصلا لم أذكر أنه قرر أو قال أو فعل أي شيئ،شهادتي كانت عما دار في مكتبه، وهو لم يقل أي شيئ يدينه، فمن كانوا في مكتبه هم من قالوا اشياء تدينهم هم
وأدركت بعد ذلك أن قرار القبض عليه كان قرارا سياسيا، وكنت أظن ظنا آثما لفترات طويلة أن الدكتور سرور من حاشية السلطان الذين دمروا مصر بتفصيلهم قوانين علي مزاج مبارك، خلال فترة رئاسته لمجلس الشعب،ولكنني لم أعرف الحقيقة الا حينما رأيت الدكتور علي عبد العال رئيس مجلس النواب السابق، أدركت كم كان الدكتور فتحي سرور قيمة وقامة قانونية وبرلمانية من النادر تكرارها.
أدركت ساعتها أن المقارنة بين سرور وعبد العال هي أشبه بمقارنة الهرم الأكبر بعمارة آيلة للسقوط في الدويقة.
حينما رأيت الدكتور على عبد العال وتلعثمه ولغته العربية المتعرجة المكسحة وعدم قدرته على نطق حرف واحد صحيح، تذكرت لغة الدكتور سرور الفصحى القوية الفتية، فالرجل كان يتحدث بطلاقة وسلاسة رهيبة، ويرفع المرفوع ويكسر المجرور بقوة واقتدار غير عادي.
كان صاحب كاريزما طاغية في إدارة الجلسات وفي اللغة وفي القانون والذكاء والإدارة،وكانت له هيبة كبيرة ومع ذلك كان في غاية التواضع.
حينما رأيت على عبد العال يدوس علي القانون بحذاءه في تصويت تيران وصنافير وفي غيرها من التصويتات والقوانين، تذكرت الدكتور سرور وهو يفند كل نقطة في أي مشروع قانون وأي اتفاقية، كان يجلس بالساعات دون أن يتحرك من مكانه من أجل مناقشة مادة واحدة "معصلجة" في أي مشروع قانون، كان الرجل حريص كل الحرص على أن يمر القانون الذي تريده السلطة بشكل راقي وأن يستوفي الشكل بالكامل.
كان الرجل عملاقا في القانون وصاحب ذاكرة حديدية وذكاء غير عادي في إدارة الجلسات وتمرير القوانين بشكل سليم حتى لو اعترضت المعارضة.
حينما رأيت برلمان علي عبد العال الذي لم يشهد استجوابا واحدا ضد الحكومة تذكرت الدكتور سرور الذي كان يزمجر حينما يتغيب وزيرا مهما كان حجمه عن طلب إحاطة، فما بالك بالاستجواب.
تذكرت سرور الذي أجبر حبيب العادلي، وما أدراك من هو حبيب العادلي قي ذلك الوقت. للحضور للمجلس للرد على استجوابات المعارضة
كان سرور يدافع عن حرمة وكرامة البرلمان بصدق وقوة وحماس غير عادي، كان البرلمان يستمد قوته وبريقه من وجود شخص بكاريزما سرور القانونية والشخصية وكل أدواته وملكاته.
حينما رأيت برلمان علي عبد العال وكيف يتم التعامل مع المعارضة تذكرت الدكتور سرور وطريقة تعامله مع المعارضة وكيف كان يعطي نواب المعارضة الكلمة أكثر من نواب الوطني وفي النهاية القرار يكون للأغلبية، تذكرت طريقة إدارة سرور للجلسات وهي طريقة لا يستطيع أحد غيره أن يديرها بهذه القوة والحكمة.
كان حينما يرى الجلسة هادئة والنواب نائمون يعطي الكلمة لنائب من المعارضة ليشعل الجلسة فيستفيق نواب الوطني وتسخن المناقشات.
كان يعرف متى يعطي الكلمة لزكريا عزمي لنزع فتيل الأزمات والنواب المعارضة لتسخين المناقشات ومتى كان يعطيها لأحمد عز من أجل مزيد من السخونة، كان سرور مدرسة في اللغة والكاريزما والقانون والذكاء الفطري والذاكرة.
لعل هذا الرأى لا يعجب أحدا ولكنه ليس نوعا من النوستالوجيا، هو إنصاف لرجل رحل إلى ربه، له ما له وعليه ما عليه، ولكننا بالفعل وقعنا في خطأ جسيم في ثورة يناير حينما قررنا واعتبرنا أن كل رجال دولة مبارك وأن مبارك نفسه شيطان والحقيقة غير ذلك تماما، فمبارك ورجاله كانت لهم اخطائهم الكبيرة ولكنهم كانوا رجال دولة بمعنى الكلمة.
رحم الله الدكتور سرور الذي كنت أتمنى أن التقيه قبل وفاته لأقول هذه الكلمات