عمت مساء يا سيدي، رن صوت غريب في أذني مكررا الجملة أكثر من مرة, ويده اليسرى تهزني محاولةً إيقاظي من النوم، فتحت عيني نصف فتحة لأجد أمامي شخصًا ضخم الجثة, غليظ الملامح, بشارب كثيف يغطي الأنف ويختفي خلفة الفم رغم غلظة الشفتين، نصفه الأعلى شبه عار ويرتدي سروالاً يعود لعصر ضارب في القدم.
فورا أغلقت عيناي وتقلبت في الفراش لأعطيه ظهري مؤكدا لنفسي أنه حلم, قائلا بصوت واضح: ماهو ماحدش عاقل يتعشى كوراع ولحمة راس، أكيد العجل كمل في بطنك وطلعلك في الحلم.
عاد الشخص لهز جسمي مرة أخرى مرددا نفس الجملة عمت مساء سيدي، أفقت وانتفضت جالسًا في آخر الفراش، ناظرا للشخص الواقف أمامي وسألته: هو حضرتك قريب العجل، صدقني اللي دبحه المعلم عبد الحميد الجزار .. أنا والله ما أكلت إلا حاجه على قد العشا، كمان اللي عملت الأكل ومثلت بالجثة مراتي أنا ما بعرفش أطبخ.
اشرئب شاربه الكثيف واكفهر وجهه وأمسك بسيفه داخل الغمد صارخا في: تحدث العربية الفصحى؛ فأنا لا أفهم لغتكم, ثم عن أي جثة تتحدث، أشعر أنك تسخر مني، وواضح أنك لا تعلم من أنا، ووقف بزهو رافعا وجهه لأعلى وقال: أنا مسرور سياف الملك شهريار.
ارتعدت أوصالي وانكمشت تحت الغطاء قائلا:"سيبني لبكرة الله يخليك" امتعض مسرور: كم سئمت من هذه الجملة، سمعتها من مولاتي شهر زاد؛ ورق قلب مولاي شهريار لها؛ فحرمني من متعة قطع رقبتها .. ألف ليلة متتالية توقف فيها سيفي عن العمل؛ بعدها نجحت في إخضاع الملك بسبب جمالها وحسن حكيها؛ فأحالني للتقاعد.
قفزت لأبعد مكان في الفراش بعيدا عنه وأنا أقول: وعملت shift career وبقيت بتدبح الرجالة، ولا إنت ياعم قريب العجل وجاي تنتقم له .. والنبي أنا لا دبحته ولا طبخته، والنعمة اللي دبح المعلم عبد الحميد واللي طبخت لحمة الراس والكوارع مراتي، كل اللي عملته إني أكلت حتة قد كده, وأشرت بأطراف أصابعي محاولا إقناعه بصغر حجم ما أكلته.
اقترب مني وأمسك بي مربتًا على كتفي: لماذا تخاف مني وتهذي بلغة لا أفهمها, أنا هنا لخدمتك مبعوثا من الملك شهريار أمسكت يده ووضعتها بجواره: شهريار بقى ولا شهر ديسمبر حتى كده كده القبض قليل ومابيكفيش.
عقد حاجبيه ونظر شذرا وقال: قبض! أهناك مارق؟ هيا بنا لنقبض عليه وأعيد سيفي للعمل.
يا صديقي مسرور القبض غير القبض.. وتوقفت عن الكلام واستطردت مكملا حديثي باللغة العربية, القبض في عرف الأيام الحالية معناها الأجر مقابل العمل ونحن نأخذ راتبنا كل شهر نظير العمل. هز مسرور رأسه قائلا: مثل الفرنجة، ابتسمت وأجبت: تماما كالفرنجة لكن نحن نعمل مثل الفرنجة ونأخذ أجرا كالصومال
سألني بسرعة مبديًا عدم فهمه: الصومال؟! قلت له: لا تشغل بالك إنها دولة فقيرة.. ابتسم وقال: ما عملك يا بني؟ قلت له: صحفي, وقبل أن يسألني عن معنى كلمة صحفي, قلت مثل المنادي في زمنكم.. ابتسم بصوت عالي وقال وأين حمارك؟ ضحكت وقلت له أقوم بعملنا كلينا أنا والحمار، تعجب: أأنت حمار؟ يا مسرور لا طبعا، فقط لا نحتاج الآن للحمار في الانتقال لأننا اخترعنا وسائل نقل أخرى.. هز رأسه وقال: ok سألته متعجبا ok ؟ فضحك مرة أخرى وبرم شاربه الكث: ok مثل الفرنجة .
جلست على المقعد المواجه للفراش وسألته: صارحني من فضلك ماذا تريد مني؟ رد قائلا: أنت, المسئول استدعائي، وأشار بما يعني دعني أكمل كلامي، كتب على تويتر منذ أيام مستنجدا بالعبد مسعود. سألته: وما علاقتك بتويتر وفيسبوك؟ كل ما تكتبونه على مواقع التواصل الاجتماعي نراه لحظة النشر صوت وصورة, أجاب أثناء جلوسه واضعا ساقًا فوق ساق.
ضحكت بشدة وتلاقيك بتعمل شات يا مسرور آه يا خلبوص. أمسك يدي بقوة قائلا: عدت مرة أخرى للحديث باللغة الغريبة، سبب اهتماماتنا بمواقع التواصل الاجتماعي كونها وسيلة اتصالنا الوحيدة بعالمكم.
وأضاف قائلا: عندما طلبت في تويتة عون العبد مسعود، أرسلوني لك بدلا منه لأنه الآن منتدب للعمل في غزة لضبط الأوضاع في القطاع.
ألجمت المفاجأة لساني، غير معقول العودة والانتقال من زمن لآخر إلا إذا كانت لحمة الراس من المسكرات والكوارع مادة مخدرة، والمعلم عبد الحميد أهمل مهنة الجزارة وبات في الخفاء "بيفيش الهوامش"، أو أنه ذبح بالخطأ العجل المقدس, ومسرور إما أنه خادم العجل أو قريبه وجاء لينتقم مني بطريقته، يا رباه تويتة الاستنجاد بالعبد مسعود كانت مجرد دعابة ساخرة.. قلتها رافعا يدي للسماء.
صرخ في مسرور قائلا: أحتاج فقط للخريطة التفاعلية للسوق المصرية, وكذا أسماء التجار الفاسدين سبب ارتفاع الأسعار لأنفذ ما أرسلوني من أجله، وسحب تليفوني المحمول ونقل بعض البيانات في آلة غريبة في يده واختفى تماما بعد أن وضع محمولي على المنضدة.
استمرت الدهشة بشكل كاد يفجر رأسي، عبد من كتاب الحواديت مدرب على التكنولوجيا حضر بسبب تويتة كتبها مستنجدا بسخرية بعبد من زمن آخر، كيف تحولت الأمور لفيلم هندي قديم مكتمل الأركان ينقصه فقط فيل يحلق في سماء الغرفة، ونظرت للسقف لأتأكد من أن الليلة العبثية لم ترسل فيلا هنديا يرتع في سقف غرفتي ويرقص تانجو بزلومته القرمزية.
وتذكرت أن العبد مسعود كان مضطهدا أثناء حكم الحاكم بأمر الله كونه عبدا أسودا وأنصفه خليفة الدولة الفاطمية المثير للجدل وعينه مرافقا له.
وحسب الرواية المنقولة بالحكي عبر الأجيال, استغل الحاكم بأمر الله بنيان العبد مسعود القوي وقدرته الجسمانية الفائقة في ارتكاب الفحشاء مع شهبندر التجار وسط السوق أمام كل التجار والمتواجدين بعد ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، وكرر نفس الفعل مع بعض التجار الجشعين لضبط السوق وإعادة الأسعار للأرقام الطبيعية.
وابتسمت بشدة لفكرة تواجده منتدبا في غزة الآن، لكن للحق لا مسرور ولا مسعود ولا ملايين غيرهم يستطعون الإنقاذ؛ فالعبيد على مر التاريخ لا يملكون حلولا، الأحرار فقط المؤهلون للقيادة.
مر وقت لا أعرف قليل كان أو كثير, وفجأة حدثت ضجة كبيرة وظهر مسرور مرة أخرى يصرخ بشدة موجها حديثه لي: لا أمل مع هؤلاء.. لا انا ولا العبد مسعود نستطيع إصلاح حالهم، وكرر الجملة بانفعال شديد لا أنا ولا العبد مسعود نستطيع إصلاح حالهم ظل يرددها بشكل متتالي واختفى فجأة مثلما ظهر فجأة.
توقف عقلي عن التفكير وحملقت عيناي في لا شيء, وفجأة وجدت يد رقيقة تهزني وصوت ابنتي الصغيرة يقول: اصحى يا بابا ماما خلصت العشا.. فتحت عيني لأجد نفسي نائما على فراشي والمكان هادىء تماما ولا أثر لما رأيت منذ لحظات وابنتي الصغيرة تبتسم وتقول: يللا يا بابا بقى، ده العشا النهاردة (الكوارع ولحمة الراس).
ماجد سمير