مع حلول شهر رمضان المعظم، أعاده الله عليكم بالستر والجبر، وعلى أشقائنا في فلسطين والسودان والدول المكلومة بالسلام والخلاص ، أجد من الأهمية بمكان تجديد مفاهيم الصيام ، من أجل صيام جديد ، في شهر عظيم ، في زمن استثنائي، وسط أحداث غير مسبوقة، وأوضاع أليمة للغاية في قطاع غزة بالتحديد مع استمرار جرائم الإبادة الجماعية بالتجويع والقصف، والاكتفاء الدولي بالتنديد.
أدعو هذا العام مجددا إلى مفهوم "الصيام الاجتماعي الشامل"، عبر الانتقال من اقتصار مفهوم الصيام على المعنى التعبدي المقتصر على وقت محدد عن المفطرات، إلى المعنى الشامل الممتد من الذات إلى العلاقات والمعاملات، والمرتكز على الإمتناع عن سيء الأفكار والمشاعر والسلوكيات من أجل زيادة مساحات التفكير الايجابي والمشاعر الإيجابية والسلوكيات الايجابية، في الأسرة والمجتمع.
إن الصوم في اللغة، يعني الامتناع عن شيء معين، وإن الفرصة سانحة في حضرة شهر رمضان المعظم، في ظل الأوجاع القومية والعروبية والاسلامية، لصناعة صائمين جدد، على منهج جديد ، ينطلق من مدرسة رمضان حيث يمكن من خلالها النجاح في بسط مساحة الامتناع إلى مساحات أكبر ، تحت تأثير القوة الروحية المرتكزة على المناخ الروحاني الجميل للشهر الكريم.
إننا بحاجة إلى صيام ممتد المساحات والمفعول في العلاقات والمعاملات ، قبل ومع الصيام عن الطعام والشراب واللذة وباقي المفطرات، صوم عن التطفيف الاجتماعي، والنفاق والتعسف والاستغلال ، والاستباحة والاعتمادية، والسلبية العدوانية والإهمال ، وصوم كذلك عن الغيبة والنميمة والحسد والبخل ، والصراعات وأكل مال اليتيم و إرث المرأة وأمثال ذلك من الجرائم، وصوم عن اللامبالاة واعتياد المشاهد في الأراضي الفلسطينية المحتلة والأراضي السودانية المغبونة ، وصوم عن أي خذلان لمكلوم مكروب ، من أجل إكمال صيامنا وتجويد علاقاتنا ومعاملاتنا، وعدم الاكتفاء بالتنديد والشجب واللوم والنقد.
إن صوم الروح عن كل أذى وجرح، وصوم النفس عن كل شح ويأس، وصوم العقل عن كل خمر ودجل، وصوم القلب عن كل حقد وعجب، وصوم الجسد عن كل بطش واستباحة ، وصوم الضمير عن كل نفاق وخذلان، يصلح في الإنسان ما انهدم ، وفي العلاقات ما انكسر، وفي المعاملات ما فسد، ويعيد للحقوق ما ضاع وللواجبات ما سقط، ويصنع صائما جديدا.
وإن تصحيح مفهوم الصيام، هكذا ، يستلزم تصحيح مفاهيم الإفطار والغذاء ، فالصيام الإجتماعي الشامل الممتد من الذات إلى العلاقات والمعاملات، يحتاج إلى السعي نحو إفطار جديد يعتني بالبدن ولا يمنع التغذية الايجابية للروح والقلب والعقل والنفس، ويحترم المحنة العظيمة التي يحيا فيها الشعب الفلسطيني أسير الجوع والمجاعة.
وإن غذاء الروح، هو التعلق الكامل بالعلي الباقي في كل مسارات الحياة وسلك مدراج المحبين ، وغذاء الفؤاد هو الحب الإيجابي المبصر ، وغذاء النفس هو التسامي و سلك سبل المعروف والتفاؤل والمعالي ، وغذاء العقل هو المعرفة والوعي، وغذاء الضمير هو التقوى، أما غذاء الجسد فأظن أن الحديث النبوي المعجزة يكفيه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم :" بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه".
ومن اللافت تزامن صيام المسلمين ، مع بدء الصوم الكبير لدى اخواننا المسيحيين، أعاده الله عليهم بالخير والمسرة ، ما يعني أن العالم في حالة صيام عام في الفترة المقبلة، ما يستلزم استفادة الجميع من حضور الصيام في حياتهم بما يفيد الذات والبشرية وينقذ العالم من شرور شياطين الإنس في الكيان اللقيط وأعوانهم، والذين تفوقوا على شياطين ابليس في الإجرام.
يصف الأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي الصوم بأنه "شريعة اجتماعية إنسانية عامة"، يتقي بها الإنسان شرور نفسه، مؤكدا أنه لن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه "قانون البطن" الذي يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس.
إن الصيام لم يكن أبدا فريضة دينية صماء منعدمة التأثير، لفرض المشقة والتعب والارهاق، على القلوب والأرواح والنفوس، ولكن – ورغم ما يظهر من ضوابط ثقيلة- فإنه، مدرسة اجتماعية تصحيحية كبرى، لإحداث تغيير متدرج في النفوس، وصفاء متصاعد في الأرواح، ونقاء متزايد في بياض القلب ونقائها، ويقظة واجبة في الضمائر وحضورها الناجز.
ألا ما أعظمك أيها الصيام وما أعظمك يا شهر رمضان.