رئيس مجلس الادارة: نجلاء كمال
رئيس التحرير: محمد أبوزيد
advertisment

محمد حماد يكتب :في الذكرى الثامنة لرحيل الأستاذ... هيكل نهر لا ينضب

المصير

الجمعة, 16 فبراير, 2024

08:34 م


انتقدت الأستاذ هيكل في حياته، وكتابي "الرئيس والأستاذ" شاهد، وفيه تقييم أولي لتجربة هيكل مع السلطة في مصر، ولكني اعترف أننا في أشد الحاجة اليوم في ذكرى رحيله إلى رؤى الأستاذ وآرائه، إلى حكمته وخبرته، إلى اطلاعه ومطالعاته على ما يجري في العالم من حولنا وهو مقلق وصادم وخطير على مستقبل بلدنا وأمتنا.
محمد حسنين هيكل مثل الظواهر الكبرى، لا يتكرر إلا بمضي الزمن، ولا يمكن إعادة إنتاجه إلا بإعادة إنتاج الظروف نفسها التي جادت به، ومن أين نأتي كل يوم بزعيم مثل جمال عبد الناصر، ومن أين نأتي كل يوم بثورة مثل ثورة يوليو؟!
وإذا كان كل ذلك صعبا فهل السهل هو أن نجد كل يوم هيكل؟!
وهيكل مثل الظواهر الكبرى لأنه متعدد الأدوار.
والحق أنه أداها جميعا باقتدار.
**
دوره الصحافي الكل يشهد له، ويكفي أنه الصحافي العربي الوحيد الذي يدخل في عداد ألمع صحافيي العالم الذين يعدون على أصابع الأيدي..
حاز لقب رئيس التحرير، وامتطى الموقع وجلس على مقعد أستاذه في المهنة وهو ابن التاسعة والعشرين من عمره، ثم كان هو الذي ارتفع بعد ذلك بجريدة الأهرام من الهاوية إلى مصاف الصحف الكبرى في العالم، وأعاد إليها شبابها بعد أن شاخت، وجعلها جريدة عصرية بكل معنى جميل للكلمة.
ودوره كشاهد على العصر أتاحت له الظروف وشاءت له المقادير ما لم تتيحه لغيره وقد أداه على أكمل وجه، وفي أفضل صورة..
وكان الوحيد الذي قدم إسهاماً جاداً ونافعاً في هذا المجال، وما فعله -للحق- يعد إنجازًا للمهمة التي كلفه بها عبد الناصر، مهمة كتابة تاريخ الثورة، وكان هو الأجدر بالقيام بتلك المهمة، والأيام أثبتت ذلك عن يقين.
**
هيكل ليس قصة قصيرة.
هيكل رواية طويلة قام فيها بأكثر من دور بطولة مطلقة.
وهو يكتب، ويروي، ويتحدث، يبقى مصرًا على التأكيد على أحد أدواره، يعطيها الأولوية، وإن لم يحاول إخفاء الأدوار الأخرى، إلا أنه يحب التركيز على الدور الذي يرتضيه لنفسه: دور الجورنالجي.
والحق أنه حتى "الجورنالجي" عند هيكل ليس هو عند غيره، فهو من مدرسة مهنية ترى أن الصحافة تاريخ تحت الصنع، وترى الصحافي وثيق الصلة بصناع الخبر، وترى نفسها جزءاً من صناعة الخبر، وليس مجرد أداة لإذاعة الخبر ونشره.
**
مدرسة هيكل الصحافي ترى "الصحافة" جزءاً من الحياة السياسية خاصة في البلاد المتخلفة، ولكنه كان يصر دائماً على أن يكون دور البطولة المسندة إليه في الصحافة، وأن يبقى دوره السياسي جزءاً من دوره الصحافي، ولا يطغى عليه، وظل مصراً على أن يجعل الصحافي هي صفته الأولى، أو صفته التي تستوعب صفاته الأخرى، حتى ولو أصبح وزيراً للإعلام.
والحق أن ذكاء هيكل، وليس حبه للمهنة فقط، هو الذي جعله يتمسك بصفة الصحافي، ويبعد نفسه قدر الطاقة عن الانغماس في لعبة السلطة، وهي لعبة لا تعرف غير الحركة قانوناً للاعبيها، مواقعهم متحركة، أوضاعهم متحركة، درجات نفوذهم متحركة، يصعد الواحد منهم لكي يهبط، ويهبط الواحد منهم لكي يواريه النسيان..
لكن الصحافي، خاصة الكفء، الموهوب، القريب من صاحب السلطة والقريب خاصة من عقله له موقع مختلف في لعبة السلطة، موقع يعتمد على مواهبه، أكثر مما يعتمد على نفوذه، موقع يعتمد على ممارسته للدور المؤهل له، أكثر مما يعتمد على أداء الدور المطلوب منه، لأن الدور المؤهل له ينتدبه، أما الدور المطلوب منه فيمكن أن يطلب من غيره.
**
وهو، ربما تأكيداً على دوره السياسي، يرى أن الصحافة المصرية والعربية لعبت في بلادنا أدواراً – بالطبع سياسية – بالغة الأهمية والجلال.
وهو هنا كأنه يتحدث عن دوره، أو هو حديث عن النفس أكثر منه حديثاً عن الصحافة بعمومها، أو عن الصحافيين بعامتهم..
وأثبت بالتجربة إن ما يستطيع القيام به متاح خارج السلطة بقدر ما هو متاح داخل السلطة، وأن السلطة لم تعطه موهبته، بل إن موهبته هي التي جعلته قريبا منها، بل جعلت السلطة تحرص على أن يكون قريبا منها..
وهيكل تجربة فريدة في نوعها، اقترب من السلطة حد الالتصاق وحافظ على القدر المناسب من استقلاليته بما لم يفعله أحد من قبل..
اندمج في لعبة السياسة لكنه حافظ على فعل الكتابة اليومي، حتى صارت الكتابة هي حياته..
**
كتبت حين كتب يستأذن في الانصراف أنني أعلن على مسئوليتي الشخصية أن "الأستاذ" لن يعتزل..
لن يعتزل هيكل لأن الإنسان لا يعتزل نفسه.
وأقولها بالفم الملآن، بدون ادعاء أني أملك معلومات خاصة لا تتوافر لمن لا يعرفون الأستاذ شخصياً.
أقول، بل أؤكد أن هيكل لن يعتزل الكتابة..
وما أقوله ليست نقلا عنه.. ولكنه عن علم به..
والذين يعلمون هيكل ـ حق العلم ـ يعرفون أنه لن يعتزل، والذين يعلمون هيكل على حقيقته يعرفون أن هيكل ابن الثمانين أكثر ولعا بمهنته من هيكل ابن الثامنة عشر لحظة رأى اسمه لأول مرة مطبوعا على ورق.
**
لا أحد يمكنه أن يتصور هيكل لا يكتب، لأنه يصحو من نومه ليكتب، ولأنه يقرأ لكي يكتب، ولأنه يعيش لكي يكتب..
يموت الزمار وأصابعه تلعب، ويحيا هيكل والقلم بين يديه يكتب..
كان يجلس مع عبد الناصر فيكتب، ويتركه ليعود إلى مكتبه ليكتب وقائع ما جرى قبل دقائق حتى لا تخونه الذاكرة إذا ما حاول الرجوع إلى ما كان.
يحادثه عبد الناصر بالهاتف فيكتب هيكل رؤوس الموضوعات وعناوين جرت مناقشتها..
يغلق عبد الناصر الهاتف، فينكب هيكل على كتابة تفاصيل ما كان في لقاء الهاتف..
يذهب هيكل إلى نومه ومعه قلم وورقة وكتاب، لم ينم مرة إلا بعد أن قرأ، ولم يقرأ مرة إلا وأتته فكرة، وإذا هاجمته الفكرة كتبها حتى ولو نداء النعاس يصرخ من تحت غطاء النوم.
لم يتوقف هيكل عن الكتابة والقراءة، وهل يتوقف الإنسان عن التنفس؟
**
حين كان وزيرًا في آخر الوزرات بعهد جمال عبد الناصر، كان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء، وعبد الناصر يرأس الاجتماع، والحديث مفتوح حول موضوعات بالغة الأهمية، بالغة السرية، يسمعه عبد الناصر يقول من على طرف المائدة:
- هذا يصلح مانشيت الأهرام غداً، فيحذره عبد الناصر: "إحنا في إيه.. وأنت في إيه؟".
في الثالثة والتسعين من عمره رحل الأستاذ منذ ثماني سنوات، كانت الكتابة والصحافة هي كل حياته، وما عداها فهي مجرد تفاصيل تخدم على المتن، وهوامش على المجرى الرئيسي للنهر الذي لا تنضب مياهه بالرحيل