حبي للقراءة منذ بواكير حياتي، هو النعمة التي ما يزال ربي يسبغها عليّ حتى اليوم، ومنذ بضعة أشهر تملكتني رغبة عارمة في أعيد قراءة بعض الكتب التي سبق لي قراءتها، وكان «شخصية مصر» يتصدر قائمة تلك الكتب.
كنت وضعت الكتاب في موضع ظاهر من مكتبتي حتى يظل في متناول يدي باستمرار أعود إليه بين الحين والآخر، أقرأ بعض فصوله المنتقاة حسب مزاج القراءة، وبحسب الحاجة إلى النظر في قضية أريد أن أستطلع رأي الأستاذ فيها، خاصة تلك القضايا التي يتمحور الكتاب حولها.
في الشهور الأخيرة وجدتني أمام رغبة تتملك عليَّ كل جوانحي في أن أقرأ الكتاب من جديد بعيون رجل زادت معارفه عن تلك المرحلة التي بدأت فيها القراءة الأولى، ميمماً وجهي إلى تلك الأجزاء التي كنت أغفلتها أو تلك التي لم يتسع الوقت ـ ساعتها ـ لقراءة بعضها الآخر.
**
«شخصية مصر» هو موسوعة كتبها في أربع مجلدات ضخمة بعضها يزيد على الألف صفحة، المجلد الرابع هو أصغرهم (حوالي 700 صفحة)، وهو المجلد الأثير لدى الكثيرين من قراء تلك الموسوعة الكبيرة والممتعة.
في قراءتي الأولى لـ «شخصية مصر» كنت أبحث عما أحتاجه من الكتاب أكثر من حرصي على الإلمام بكل ما يريد إثباته وتقريره بطريقة فريدة آسرة وساحرة في الوقت نفسه.
أعترف أن القراءة الثانية هي الأمتع، تلك المتعة المعرفية التي تنساب في وعيك مع التقدم في قراءة تلك الموسوعة لا تدانيها متعة أخرى من متع الدنيا.
مشاعر الانبهار والتقدير والاحترام والعرفات بالجميل لهذا المفكر صاحب هذا المؤلف الضخم هي التي سادت فترة القراءة، تدخلك في رحلة اكتشاف ومعرفة وإدراك وسياحة فكرية في جغرافية مصر الطبيعية والبشرية معاً، وغوص مفتح العينين في تاريخ مصر.
ستدهشك تلك السياحة في بحور مصر ونيلها وبحيراتها وفي طقسها واقتصاداتها واجتماعيتها، وشخصية أهلها، إبحار مبسوط فيه الكثير من المعارف، ومبثوث بين محطاته وفصوله وبين سطوره نتاج مثمر من علوم كثيرة أتقنها ذلك المفكر الكبير وتتبدى في سطور كتابه الموسوعة.
**
سوف توقن بعد أن تغوص في أعماق «شخصية مصر» بأن قراءته قراءة واعية لا غنى عنها لكل محب لمصر، وأننا في أمس الحاجة إلى إعادة قراءته ولا يجب أن ننسى أنه كان الرد البليغ على الهزيمة في يونيو سنة 1967 والتي رآها الكاتب الكبير عارضة، فراح يثبت بالجغرافيا، ويستدعي التاريخ، ثم يمزجهما معاً في مزاج وضعه في بوتقة علوم شتى، ليؤكد على أن مصر أكبر من أي هزيمة، وأبقى من أي نظام، وأنها قادرة على أن تعبر كل انتكاس، ماضية في سرديتها المتفردة لا تلتفت إلى عوائق، ولا تقف في وجهها معوقات.
من هنا درس جمال حمدان وقراءته بإمعان هي واجب الحاضر، وهي ضرورة للمستقبل.
**
كتب جمال حمدان «شخصية مصر» في وقت كان الجدل على أشده حول انتماء مصر، وهل هو للشمال الأوروبي المتوسطي، أم لإفريقيا، أم لغيره، فخرج حمدان بمقولة إنه إذا كان أجدادنا فراعنة فإن آباءنا عرب، وهي رؤية لتجدد الهوية المصرية المركبة، وبدا أن المفكر الكبير أراد أن يعيد كشف مصر أمام نفسها أولاً، وهو الذي كان يكرر: «إن ما تحتاج إليه مصر أساساً إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً».
كان يريد أن يقول إن أي تغيير جذري في العقلية والمثل وإيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها، ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر، ومستقبل مصر.
**
يمكن فهم بعض ملابسات حياته الخاصة التي انقطع خلالها عن الحياة العامة بكل صورها إذا ما تأملنا عبارته المنسوبة إليه: «الجغرافيا لا تقبل شريكاً قط، لا في العلم ولا في الحياة: أنت محكوم عليك بالجغرافيا إلى الأبد، وإلا خرجت من حوزة الجغرافيا، بمعنى لن تكون شيئاً مذكوراً في الجغرافيا إن لم تتفرغ لها تماماً العمر كله».
وقد أوضح في مقدمة سفره الموسوعي نظرته العميقة إلى «الجغرافيا» التي تخصص فيها ليقول إنها «علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها». وهو يصف كتابه الكبير في الصفحات الأولى منه بأنه ليس كتاباً في التاريخ، لكن في الجغرافيا التاريخية، ولا في السياسة، وإنما في الجغرافيا السياسية، ولا في فلسفة التاريخ، إنما في فلسفة المكان، المكان عنده ليس مجرد موقع جغرافي، كما أن الزمان ليس مجرد تقلب القرون وتتابع الحوادث، فالجغرافيا عنده هي المكان في حالة حركة تاريخية، والتاريخ عنده هو الزمان حين يحط على تضاريس محددة.
**
الجغرافيا السياسية «تكثيف استراتيجي للسياسة»، والجغرافيا الاجتماعية في نظره «تكثيف استراتيجي لعلم الاجتماع»، والجغرافيا «علم استراتيجي»، وهي أقوى من التاريخ «لأن الجغرافيا تحكم وتصنع التاريخ، ولكن التاريخ لا يحكم الجغرافيا ولا يصنعها»، الجغرافيا عنده «علم مفصلي، ليس فقط بموقعها وسط العلوم الطبيعية والاجتماعية، لكن أيضا بربطها بين الظاهرات المختلفة أفقياً ورأسياً».
الجغرافيون عنده في موقع وموضع يتقدم الصفوف: «الجغرافيون بالضرورة تلاميذ كل المتخصصين الآخرين ابتداء من الجيولوجيا حتى التاريخ، لكن ماذا بعد هذه التلمذة؟، أليست إلا الأستذة، فبعد أن يأخذ الجغرافي عنهم يصبح في النهاية قائداً وأستاذاً لهم».
من الجغرافيا انطلق جمال حمدان إلى التاريخ، ومنهما حدد ثوابت موقفه، وحين وقف بشكل معلن ضد اتفاقيات «كامب دافيد»، لم يكن يعبر عن موقف سياسي آني أو مرحلي، بل كان ينطلق من ثابت جغرافي عنده، وهو الذي اتهم هذه الاتفاقيات بأنها تقضي على دور مصر العربي.
**
الأسبوع الماضي ـ بالتحديد في الرابع من فبراير الحالي ـ مرت ذكرى مولد واحد من عظماء مصر ومن أكابر عشاقها، عاش جمال حمدان 65 سنة بين 1928 و1663، في إبريل المقبل يمر على رحيله 31 سنة، وما يزال عصيًا على الغياب، حضوره ما يزال طاغيًا بما تركه وراءه من كتابات وكتب وآراء دخلت في باب العلم العام لدى قطاع كبير من المثقفين.
سلامٌ على العالِم الكبير عاشق الجغرافيا الذي قال عنها: «يموت الجغرافي الجيد وفي نفسه شيء منها»، سلامٌ على أعظم من استخرج الحقائق من الخرائط، وهو القائل: «الخريطة لا تمنح أسرارها إلا لمن يعشقها»، سلامٌ على صاحب الأفكار الخلاقة، وهو ذاته صاحب عبارة: «الجغرافيا الفكرية هي وحدها الجغرافيا الخلاقة»، وسوف تبقى أفكاره الخلاقة تستعصي على الهزيمة، وسوف يبقى هو عصياً على الغياب.
كانت مصر عند جمال حمدان «هي واسطة كتاب الجغرافيا تحولت إلى فاتحة كتاب التاريخ»، وكان يردد عنها قوله الخالد: «من كان أبوه التاريخ وأمه الجغرافيا فهو من صنع الله».
ظل جمال حمدان طوال حياته متعبداً في محراب مصر، مبتعداً كالنجم القطبي لا يتحول عن مبادئه، تاركاً وراءه ضوءه ليسترشد به السائرون في الطريق إلى الوطن.