رئيس مجلس الادارة: نجلاء كمال
رئيس التحرير: محمد أبوزيد
advertisment

محمد حماد يكتب :وداعا معرض الكتاب، ذكريات لا تغادر القلب والعقل

المصير

الأربعاء, 31 يناير, 2024

01:56 م


ظللتُ أردد أن معرض الكتاب (عايز فلوس)، حتى آخر دوراته في «مدينة نصر»، إلى أن انتقل إلى موقعه الحالي تأكد لي أنه (عايز فلوس وصحة)، ومن ساعتها لم أذهب إلى المعرض الذي دخلته أول مرة في لأول دوراته سنة 1969، مكثت طوال تلك الفترة الطويلة أرتاده بانتظام، وفي كل مرة كنت أخرج منه بمجموعة كتب، ودوريات، ومنشورات، ما يزال الكثير منها يزين مكتبتي إلى يومنا هذا.
كنت في الاعدادية حين بدأت زياراتي إلى معرض الكتاب، وظللت أحرص على زيارته كل عام طوال 44 دورة من دوراته ال55، وكان معرض الجزيرة هو الأقرب إلى قلبي ومنطقة سكتي، وفي زيارتي الأولى له رجعت إلى البيت محملا بما نقص عندي من إصدارات المكتبة الخضراء ومكتبة الكيلاني وما طاب لي من سلسلة أعلام العرب والمسلمين بالإضافة إلى كتاب أطلس الوطن العربي والعالم. وهو الأطلس الذي تسلمت نسخه منه بعد سنة حين التحقت بالسنة الأولى بالثانوية.
**
أحببت أكثر ما أحببت في حياتي أربعة أشياء: القراءة، والسفر، والسينما، وصوت «فيروز»، أما القراءة فكانت بالنسبة لي هي مفتاح الحياة، هي التنزه في عقول الكُتَّاب، وكانت تمنحني القدرة على السفر (بدون تأشيرة ولا تذاكر، ومن غير أن أتحرك من مكاني) تأخذني إلى عوالم من الأفكار، والأحداث، والمدن، والتواريخ، ومساحاتٍ من الخيال، وأخرى من الحقائق، في حين كان السفر يمنحني القدرة على قراءة الأماكن والناس والعادات واختلاف الثقافات.
لست أعرف كيف تكون حياتي لو أني لم أتعلم القراءة، خاصة وأنا ابن قرية منسية مرمية على طريقٍ ضيقٍ يصل بين مدينتي «قطور» بالغربية و«دسوق» بكفر الشيخ، لكني أعرف على وجه اليقين هذه المتعة التي كنت سأخسرها، لو لم يكن في قدري أن تكون القراءة هي شغفي المبكر منذ فككت الخط في كُتَّاب القرية قبل أن ألتحق في القاهرة بالمدرسة الابتدائية.
**
كانت الكتب لها حضور ظاهر في بيتنا، تملأ أرفف المكتبة التي تحتل مساحة حوائط البيت، وكانت القراءة تؤنس وحدتي، وتفك رموز انطوائيتي في تلك السن، وكان «معرض الكتاب» بمثابة فرحة، مزدوجة بالنسبة لصبي مثلي لم يكن الخروج والفسح من الأشياء المتاحة ولا المباحة، وكانت زيارة «القبة السماوية» واحدة من طقوس زيارة المعرض حين كان في «الجزيرة» منذ نشأته حتى انتقل منها إلى أرض المعارض في «مدينة نصر»، ومن بعد إلى مكانه الحالي الذي لم يتسن لي زيارته.
لم أعرف فـي حياتي ساعات أجمل ولا أسعد من تلك التي قضيتها في الطواف على المكتبات في أرض المعارض، ثم تلك الساعات التي تعقب رجوعي إلى البيت فأسارع إلى كتبي الجديدة أشمها، وأتصفح صفحاتها، بلهفة اللقاء الأول بين حبيبين جمعت بينهما لوعة الشوق.
**
«قل لي ماذا قرأت، أقل لك من أنت».. لست أعرف ما إذا كانت هذه العبارة من أقوال أحدهم رسخت في ذاكرتي أم أنها من بنات أفكاري لكن ما أعرفه جيدا أنها تعبر بصدق عن تجربتي الشخصية، فقد كان من نعم الله عليًّ أني أدمنت القراءة منذ بدأتُ أفك الخط وأركب الحرف فوق الحرف ليصير كلمة.
مقولة أخرى أعرف أنها من بنات أفكاري فقد كنت دائما أردد: «أدبتني الكتبُ، وعلمتني الحياة»، فقد كان لأثر القراءة في حياتي فضل كبير على توجهاتي منذ البدايات الأولى، وكما في كل زمان ومكان كان الأهل والأقارب والمختلطون معنا يسألون السؤال الدائم للأطفال: «تحب تطلع إيه لما تكبر؟»، ما أذكره أن إجابتي تراوحت بين أكثر من إجابة، مرات كنت أقول: نفسي أطلع مهندس في السد العالي، وكان السد العالي وقتها هو مشروع مصر القومي الذي تحالفت ضده القوى الكبرى في العالم لكي توقف بناءه، وفشلوا وفشلت كل مؤامراتهم ضد مصر والسد وحركة التنمية المستقلة التي تسارعت خطاها في الستينيات من القرن الماضي.
**
وفي مرات تالية كنت أقدم إجابة أخرى على السؤال فأقول: (عايز أطلع عباس محمود العقاد) وكنت قد اقتحمت القراءة في مجالات أكبر من سني بتشجيع من أخي الأكبر، وكانت مكتبته عامرة بالكتب في كل مناحي الثقافة والفكر والدين، وكان اسم العقاد يذكر مع صعوبة عباراته وتعقيد أفكاره، خاصة وأني بدأت أولا بقراءة أشعاره فلم أفهمها ولم أستسغ منها بيتا واحدا، ونشأ داخلي نوع من التحدي الصبياني فتركت شعره الذي تصورته أسهل من كتبه، وبدأت بقراءة أحد عبقرياته، أظنها «عبقرية عمر»، وللحق فقد شدتني إليها، وقربتني بشدة من شخصية وعبقرية الفاروق، كنت أتجاوز الصفحات التي يصعب عليَّ فهمها إلى غيرها مما أفهمه حتى انتهيت منها، وقد صرت عقاديًا مولعا به وبكتابته، وكنت أكتب اسمي الثلاثي أسفل اسم العقاد الثلاثي هكذا: عباس محمود العقاد ثم محمد محمود حماد وأحس بطربٍ وفخر شديدين للوزن الواحد والقافية المشتركة بين الاسمين.
وصادف أنني قرأت عن «طه حسين» قبل أن أقرأ له، حين ساقني القدر إلى مطالعة كتاب «معارك فكرية» لمؤلفه الأستاذ «أنور الجندي»، وفيه وجدت نقدا شديدا وساخنا وربما لاذعا لأفكار «طه حسين» بأقلام الكتاب الكبار الذين تعرفت عليهم دفعة واحدة من خلال هذا الكتاب الكبير، فشملهم حبي الذي لم يعد يقتصر على «العقاد» وحده، وللحق فقد وجدت قلم «طه حسين» أسلس ولغته أقرب إلى العقل، وربما أكثر تأثيرا في قارئه، لجدة أطروحاته، وبدأت بقراءة «الأيام»، واقتربت من كل كتبه بعد ذلك.
**
كان جل انشغالي في مرحلة ما قبل الجامعة ينصب على قراءة كتب التراث وأعلام العرب والمسلمين، ومع دخول الجامعة مع بداية السبعينيات انفتحت أمامي طاقة القدر الثقافية، واتجهت بوصلة قراءاتي إلى مطالعة وقائع التاريخ القريب، وقد كنا نراه يزيف أمام أعيننا كل يوم، في تلك الأثناء وجدت كنزي المفقود في كتابات «محمد حسنين هيكل»، و«كامل زهيري»، و«طارق البشري» و«عبد العظيم رمضان» وصلاح عيسى»، و«محمد عودة».
وكان حظي أن أتعرف على الأستاذ محمد عودة صاحب «ميلاد ثورة» مبكرًا ونحن ما نزال طلابا بالجامعة، وكان هو نفسه جامعة متحركة، فضلا عن ثقافته الموسوعية، وقراءاته المتعددة في شتى مناحي الثقافة وبلغتها الأصلية فقد كان يتقن الفرنسية والإنجليزية كما لو كانتا لغته الأصلية، وكان يطوف بنا على المسارح ودور السينما ومعارض الفن التشكيلي فعوضنا عن عشرات الكتب التي لم نستطع قراءتها. وبعيدا عن ولع جيلي بكتاب «ميلاد ثورة» فهو واحد من أهم وأمتع كتب محمد عودة، وأظن أنه أول الكتب التي حببت إليًّ فكرة إعادة قراءة تاريخنا ووجهني وجهة جديدة في قراءاتي ما تزال تعيش معي حتى يومنا هذا وبعد مرور ما يربو على أربعين عاما.
**
كانت الأسماء التي ظلت تملأ سماء وأرض بلدنا، ونحن لا نزال على عتبة الدنيا نتطلع الى أفضل مستقبل، تمثلت قدوتنا في نوعية كتاب مثل العقاد وطه حسين وهيكل وأحمد بهاء الدين، ومشايخ مثل محمد الغزالي ومحمد أبو زهرة والشيخ شلتوت، وكنا محظوظين أنا نشأنا في مجتمع يضع في صفوفه الأولى علماء الأمة ومفكريها وكتابها ومهندسيها وبناة نهضتها الحقيقية، وكان إقبال الآباء والأمهات على إلحاق أبنائهم وبناتهم كليات مثل الهندسة والطب والزراعة فقد كان نجوم المجتمع وقادته من هذه الكليات.
باختصار كنا محظوظين لأن المجتمع الذي نشأنا فيه كان جادًا أكثر، ويعرف هدفه بشكل أوضح، ويمضي في طريقه بثقة أكبر.
أصقلتنا قراءات الطفولة والشباب بالكثير من المعرفة ربما لم تتح لنا بعد ذلك، وأثرت حياتنا الكتب حين كبرنا، وهي ما تزال قادرة على منحنا متعة يمكن أن يقاتلنا عليها السلاطين، وكنت تمنيت صغيرا أن أصبح كاتبًا، والفضل الأول يرجع لوجود المكتبة والكتاب في البيت، وكان «معرض الكتاب» يمثل زادًا سنويًا لمكتبتي، ثم تعلمت كبيرًا أن الذي يتصدى للكتابة، لابد له أن يشحن وعيه ووجدانه دائمًا عبر القراءة، وإلا كان كمن يريد أن يركب سيارته ليقود بها على الطريق السريع وهي تكاد تكون خاوية من البنزين