التفاصيل كثيرة ومربكة ومركبة ومتداخلة، لكن باختصار شديد إيران ليست في وارد التدخل المباشر في الحرب العدوانية التي تشنها آلة الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيًا وغربيًا، وأعجب ما في التفاصيل هو السؤال الذي يتردد على ألسنة بعض العرب يستنكرون فيه عدم تدخل إيران المباشر في الحرب من أجل غزة؟
الأجندة الإيرانية ليس فيها الدخول في مواجهة شاملة مع أمريكا، بل هي متفقة مع السياسة الأمريكية الرامية إلى تجنب توسيع رقعة الحرب في المنطقة، ولكنها لن تتوانى عن تعظيم دورها واقتناص بعض المكاسب عند لحظة إعادة توزيع الأدوار في المنطقة بعد أن تخفت أصوات الحرب في إسرائيل.
الحسابات الإيرانية تعتمد على أنها دولة كبيرة، لها مصالح لن تتنازل عنها، ولكنها في الوقت نفسه ليست دولة عظمى تتصرف في العالم أو في إقليمها طليقة من أي قيد، ولا تخشى عقاب أحد، ولا تعبأ بردود أفعال الدول الأخرى كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر مصالحها هي القانون الدولي، وقراراتها فوق قرارات الأمم المتحدة، وإجراءاتها فوق المراجعة من أي دولة أخرى مهما عظمت قوتها.
إيران ـ مثل كل دولة في العالم ـ مصالحها ترسم سياستها، وأمنها القومي فوق أيديولوجيتها، وحدود تدخلاتها ترسم ملامحه المصالح، لا الدعاية الإعلامية، ولا البروباجندا السياسية.
إيران تنطلق من نقطة أنها دولة ذات تأثير كبير في محيطها الإقليمي، ولكنه دور محدود بقصور قدارتها، وتحده خطوط مصالحها، وهي تعرف أن تزايد نفوذها في المنطقة يرجع إلى تراجع أدوار دول أخرى ترهن قرارها في الجراب الأمريكي، وتضع كل بيضها في السلة الإسرائيلية.
**
تصاعد التدخل الإيراني في المنطقة العربية وتزايد تفاعلاتها في بلاد العرب مستغلة ثلاثة عناصر قوة:
أولًا مجموعات العرب الشيعة المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان ودول الخليج العربي.
وثانيًا موقفها السياسي من القضية المركزية في المنطقة، وهو الموقف المساند والداعم للقضية الفلسطينية، والرافض لسياسات إسرائيل العدوانية والهمجية تجاه شعب فلسطين، ومؤازرتها لحق الفلسطينيين في المقاومة المشروعة للاحتلال الإسرائيلي.
وأهم هذه العناصر الثلاثة التي تستغلها إيران في التدخل المباشر في المنطقة هو غياب الموقف العربي الموحد، ثم تخاذل المواقف العربية في مواجهة إسرائيل، وأخيرًا الهرولة العربية إلى الحظيرة الأمريكية، وسعيهم الدؤوب في سبيل الرضا الإسرائيلي.
**
هذه العناصر الثلاثة هي في الحقيقة أوراق إيران في التدخل بالمشرق العربي.
ويتزايد نفوذها في الدول العربية مع كل زيادة في حصة أي عنصر من العناصر الثلاثة، خاصة الوجود الشيعي بأي بلد عربي وتزايد تأثير هذا الوجود في محيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
ما يعطي للتدخل الإيراني في شئون المنطقة مشروعية سياسية هو التراجع العربي عن الدفاع عن الحقوق العربية الشرعية والتاريخية، ما يجعل السياسة الإيرانية المناصرة للحق العربي (حتى لو كانت مجرد شعارات أو استغلال سياسي) تحقق لنفسها لها أنصارًا ومؤيدين في صفوف الرأي العام العربي، خاصة في أوقات احتدام موجات الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين كما هو جاري اليوم في غزة والضفة.
**
نأتي الآن إلى السؤال الذي يطرحه البعض عن احجام إيران عن التدخل المباشر في الحرب الدائرة في المنطقة لنؤكد على حقيقة أن إيران معنية بمساندة حقوق الشعب الفلسطيني، ولكنها ليست مدعوة للحرب من أجله، ولا هي مطالبة بذلك.
ولا أظن أن أحدًا يمكنه أن يأخذ عليها تقاعسها عن الدخول في حرب تواجه فيها أمريكا ومن ورائها الغرب كله من أجل غزة، إلا من باب المزايدة عليها، والسخرية من المحور الذي تتزعمه تحت مسمى محور المقاومة، وهي مزايدة رخيصة ممن يفترض أنهم مدعوون ومطالبون ومجبورون على التدخل في الحرب لمنع إبادة فلسطيني غزة أو تهجيرهم أو القضاء على قوتهم وتجريدهم من أي قدرة على الحياة الكريمة.
كل الأطراف التي لها صلة مباشرة أو غير مباشرة مع ما يجري من وقائع تدمير وقتل وتهجير وتجويع شعب غزة، كلها بدون استثناء واحد بما فيهم إسرائيل لا يريدون أن تنخرط إيران في حرب غزة.
إيران إذن ليست مدعوة، ولا هي مطالبة، بل تأتيها التحذيرات من كل جانب من التدخل في حرب يمكن أن تخسر فيها كل ما حققته في السنوات الأربعين الأخيرة.
حزب الله لا يمكنه هذه المرة أن ينفرد باتخاذ قرار الدخول في حربٍ لا تريدها إيران وستكون ويلاتها على لبنان كله كبيرة وفظيعة، والحزب فريق من فرقاء كثيرين في لبنان، كلهم ضد جر البلد لحرب يدفع أثمانها باهظة على كل صعيد.
منذ بدايات الحرب على غزة كانت هناك إشارات واضحة من داخل محور المقاومة إلى أن التدخل قد يطال المصالح والقوات الأمريكية في المنطقة، وقد يأتي من الساحات الأبعد، في إلماحٍ إلى أنصار الله باليمن أو الحشد الشعبي والمجموعات التابعة لإيران في العراق.
**
في إطار المحددات السابق ذكرها ما هي السيناريوهات الممكنة أمام أي تدخل إيراني؟
الهدف من الحشد العسكري الأمريكي في شرق البحر المتوسط واضح لكل الأطراف وهو يشكل رادعًا لكل من يفكر في التدخل ضد إسرائيل، من الدول الإقليمية أو من الجماعات المدعومة من بعض هذه الدول.
ولذلك فإن تدخُّل إيران كدولة في تلك الحرب سيبقى أمرًا مُستبعدًا، فهي لن تسعى إلى التورط في حربٍ تواجه فيها أمريكا والغرب مجتمعًا ومعهم إسرائيل التي تتلمظ من فترة طويلة من أجل تدمير ما يمكن تدميره من القدرات العسكرية الإيرانية، ولجم السياسة الإيرانية في المنطقة.
المتاح في ظل الظروف الراهنة أن تواصل الجماعات المدعومة إيرانيًا شن هجمات محدودة على أهداف إسرائيلية أو أمريكية، تحت سقف عدم التصعيد الكبير الذي يكون من شأنه أن يدفع إيران إلى التورط المباشر في الحرب.
السؤال المستفز الذي يطرحه البعض عن نكوص إيران عن التدخل المباشر في الحرب من أجل غزة مردود إلى الحكومات العربية، فهي أولى بالإجابة عن الدور المطلوب منها أن تؤديه حماية لأمنها القومي، وحفاظًا على مصالحها المهدرة، ومستقبلها المهدد، بدلًا من الاكتفاء بالمزايدة على الموقف الإيراني الذي يسعى لتحقيق مصالحه والسعي لتكريس أدواره في منطقتنا المنكوبة بالتخاذل وتوهة البوصلات