الموت واحد، وإن تعددت أسبابه، هي آجال مكتوبة، لا تتقدم ولا تتأخر ساعة عن مواعيدها الموقوتة، وتجري مقاديرها بسبب وبدون سبب، ولكن واقعة وفاة شاعر بقيمة وقامة الراحل الكبير صلاح عبد الصبور تشي بأن كلمة يمكن أن تقتل، وهو الذي قال في قصيدته «مذكرات الصوفي بشر الحافي» كأنها نبوءته: «اللفظ حجرْ.. اللفظ مَنيَّهْ».
لم يستطع صلاح عبد الصبور الشاعر صادق البصيرة مرهف الحس مستيقظ الضمير، أن يتحمل كلمة، آذت كبرياءه، خاصة وأن البعض روى أنه تأثر جدًا أن يتحول مكتبه بمعرض الكتاب في غير وجوده إلى مقر للتحقيق الغير قانوني مع عدد من المقبوض عليهم من المتظاهرين اعتراضًا على مشاركة «إسرائيل» بالمعرض لأول مرة بعد معاهدة كامب ديفيد.
وكانت الحركة الثقافية قد انتقدت قبول صلاح عبد الصبور لمنصب رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، في وقت توجهت إرادة الرئيس أنور السادات إلى السماح بوجود إسرائيل بالمعرض الدولي للكتاب.
ظل هذا الوضع يضغط على أعصابه ويحرق قلبه، خاصة وأن المتوقع منه أن يعترض وهو المثقف الكبير والملتزم على مشاركة كيان العدو في معرض الكتاب الذي يترأسه بحكم منصبه رئيسًا للهيئة العامة للكتاب.
**
ثم جاءت الكلمة القاتلة في أمسية سماها الدكتور جابر عصفور في كتابه «رؤيا حكيم محزون» بالسهرة المشؤومة التقى عبد الصبور في منزل الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي كلًا من الشاعر الراحل أمل دنقل، والدكتور جابر عصفور، ورسام الكاريكاتير المبدع بهجت عثمان.
في تلك الأمسية الحزينة استمع الساهرون في بلكونة الدور الخامس في شقة حجازي إلى تسجيل يحتوي قصائد عبد الرحمن الأبنودي الجديدة وقتها:
ما احناش في زمن الشعب
ما احناش جسد واحد
ولا احناش لون واحد
ولا موجهين بنادقنا الغلط في الكون
ولا بندخل صعب
أخطف وفر
بلا شعب بلا غيره
إن كان هو يقر إحنا نقر
وأبقى واضح زي ابتسامة السر
عقَّب صلاح عبد الصبور على المقطع بأن الشعب يستحق ما يجرى له، ما دام يسكت على سارقيه، وما دام لصوصه مطمئنين إلى أنه لا يمكن أن يقر، أو يتمرد.
ولم يكد يفرغ من جملته حتى اندفع بهجت عثمان منفعلاً، موجهًا حديثه إليه: كيف يقر الشعب يا صلاح ومثقفوه خانوه وباعوه؟
جاء الرد مباغتًا، وبدا كما لو كانت الجملة أثارت ما كان مكبوتاً داخل الشاعر الكبير.
بدا الغضب على وجه صلاح عبد الصبور وهو يسال صديقه القديم عما يقصده بالمثقفين الذين باعوا، فجاءت الطلقة القاتلة على لسان بهجت عثمان:
ـ أقصد أمثالك يا صلاح، انت بعت ب 3 نكلة.
لم يخرج صلاح عبد الصبور من تلك الأمسية سليمًا، بدا عليه الإرهاق وتمكن منه الغضب وبدأت حالته تسوء فبادر حجازي وعصفور إلى نقله إلى مستشفى قريب، ولم يلبث كثيرًا حتى فارق الحياة داخل غرفة العناية المركزة.
كلمة عتاب قاسية، كانت القشة التي قصمت ظهر الشاعر الكبير.
**
لو بعث عبد الصبور حيًا في زماننا هذا لمات ألف ألف مرة، ولعرف أن كلمة نجيب سرور الخالدة أن «المثقف مشروع خيانة حتى يموت»، هي الحكمة المصفاة، وأنها كما كانت صرخة نجيب الحكيمة في وجه كثير من رفاق الطريق، فهي في نفس الوقت بصقة في وجه الذين انتهى بهم الحال في أحضان السلطة التي كانوا في يوم من الأيام من أشد معارضيها.
رغم أن السقطات كانت فظيعة في أيامهم وبمقاييس ذلك الزمان، إلا أن أحدًا من هؤلاء، الذين صرخوا ضد السقوط، والذين سقطوا، لم يكن ليتخيل المدى الذي وصل إليه السقوط في أيام الناس هذه.
ولعل القدر كان رحيمًا بهم أن رحلوا قبل أن يروا هؤلاء الذين يحتالون علينا بما يحملونه على ظهورهم من تاريخ وطني ونضالي سابق، ويسوِّقون مواقعهم الجديدة الدافئة في أحضان السلطة اعتمادًا على مواقفهم القديمة التي صارت باليه تباع في أسواق البالة السياسية.
**
لم يكن نجيب سرور يتوقع وربما لم يتخيل حجم السقوط الذي جرى من بعده، ولا تعدد الخيانات التي ارتكبها مثقفون كانوا رموزاً للنضال ثم صاروا نماذج مخزية على درب خيانة المثقفين، بعضهم يسقط ثم يستخدم مواهبه لتحسين مواقعه الجديدة في حظائر السلطة، وبعضهم تحول إلى خلايا النظام النائمة في الأحزاب، أو على الشاشات، وكثير منهم يتخفى في أردية معارضة سرعان ما تسقط عنهم أوراق التوت التي تداري عورتهم المكشوفة.
خيانة المثقف أشـد ضررًا على الوطن من خيانة السياسي أو حتى خيانة المقاتل، فخيانة هؤلاء من الممكن تصحيح آثارها بقليل من الجهد ولو بعد حين، ولكن خيانة المثقف فمفاسدها أشد خطراً على الوطن، وآثارها أشد وطئاً على عملية التقدم فيه، فهي تنخر في وعى الأمة، وتبقيه في القاع لا يقدر إلا على العويل.
أسوأ أنواع الخيانة تلك التي يقترفها المثقف في قضايا أمته الكبرى التي تمس شرف الوطن أو أرضه أو تكوينه الوطني الجامع، فتجده يوالي أعداء أمته التاريخيين تقرباً وزلفى من رعاته المحليين، فتجد الواحد من هؤلاء وقد نفض من قلبه وعقله كل ما تعلمه وعَلِمه باليقين حول أعداء الوطن، وهذه ليست خيانة لدور المثقف ووظيفته فقط، بل هي في الصميم خيانة للوطن الذي يتغنى به ليل نهار.
اقرأوا التاريخ سيكشف لكم كيف قام الاستبداد على خيانة المثقفين، الذين انبروا لصناعة الوعي المزيف، وكيف استبدت الديكتاتوريات برقاب العباد فوق ركامٍ من صمت المثقفين، وسخامٍ من خنوعهم، وما بين مثقف خائن، وبين مثقف صامت تضيع من بين أيدينا القدرة على صناعة المستقبل.