من منا لم يسحره قلم صلاح عيسى فأحاله إلى مريد في محراب كتاباته، نحن من جيلٍ كان يلهث وراء إهباريته الأسبوعية في جريدة الأهالي في زمن نضوجها وتأثيرها الواسع في محيط القراءة، وكان هو وقتها مدير تحريرها وترأس مجلس التحرير الكاتب الكبير حسين عبد الرازق، ثم صرنا من بعد نلهث وراء كتاباته التاريخية ذات النكهة الخاصة بمقريزي العصر الحديث.
الأسبوع الماضي كانت الذكرى الخامسة لرحيل واحد من أسطوات الصحافة صاحب القلم الساحر، الذي انطوت برحيله واحدة من صفحات دفتر الوطن خطها بمداد من قلبه وعقله وانحيازاته وأفكاره.
جاء صلاح عيسى الفتى القروي من المجهول ليصبح في زمن قصير نسبيًا واحدًا من أشهر من أمسكوا بالقلم في يده ليخط به كل تلك الكتابات الممتعة في الثقافة والتاريخ والسياسة والشئون العامة، تلك الكتابات التي خلفها وراءه وما تزال صالحة بل ومحرضة على قراءتها وإعادة درسها، وتدارسها.
صلاح عيسى رجل صنع أسطورته الذاتية على منوال خاص به، لا يشبه غيره، تفرد وانفرد وأمعن في يساريته، وفي معارضته، ثم أمعن في تأييده، وضع نشيده الخاص على لحنٍ متعدد النغمات، منها الصاخب الرافض، ومنها اللين الهادئ، واحتفظ لنفسه دائمًا بالتواجد في منطقة الابداع بالقلم، والجدة في الفكر بالخلاف والاتفاق.
عن نفسي اختلفت معه كثيرًا، حين شاء حظي أن اقترب منه بعد أن انضممت إلى مهنة الكتابة، ولكن لم أضبطني مرة في حالة تلبس بالخلاف على قيمته، وكتبه، وانتاجه الفكري والصحفي الغني بالإبداع والتألق حتى بما فيه من مناطق يجوز فيها وحولها الخلاف.
حتى هؤلاء الذين أمعنوا في الخلاف على مواقف صلاح عيسى لم يختلف واحد فيهم على قيمته بإبداعه وتميزه، وظل عند الجميع واحد من ألمع العقول، وصاحب النبرة الخاصة التي لم تفارقه في كل هذه الكتابات.
واتفق الجميع بعد رحيله المفجع على أن سطوره ستبقى، أما المواقف فهي تقديرات للواقع، وحسابات للذات بيت زمنها وظروفها، ولم تعد محل خلاف أو اختلاف.
**
أذكر يومًا بكرت في الذهاب إلى دار الكتب والوثائق بمنى الهيئة العامة للكتاب على كورنيش النيل، كنت وقتها أفتش في أضابير المجلات والجرائد والمطبوعات القديمة عما يفيدني في التحضير لكتابي عن "علاقة الكاتب بالسلطة"، وهو الكتاب الذي خرج فيما بعد تحت عنوان "الرئيس والأستاذ ـ دراما العلاقة بين الكاتب والسلطان".
في هذا الصباح المبكر فوجئت بيدٍ حانيةٍ تربت على كتفي من الخلف، وجاءني صوته يسألني بمودة خالصة: ماذا تفعل هنا؟، التفت فإذا به صلاح عيسى، جلس معي يسألني وأجيبه، ثم بدأت أدخله في موضوعي، وطرحت عليه خمسة أسئلة أجاب عليها باستفاضة وألمعية، بعض إجاباته خرجت فيما بعد في مقالات نشرها في عدة صحف، ونشرت بعضها الذي اختصني به في ملاحق كتابي المذكور، وأعترف أنها كانت مفاتيح للكثير مما أغلق عليَّ فيما أحضر له ليكون موضوع كتابي الأول.
**
حين ترأس صلاح عيسى جريدة "القاهرة" طلب مني الزميل سعيد شعيب الكتابة في الجريدة في موضوعات يتم الاتفاق معي عليها مسبقًا، وقبلت سعيدًا ومتحفزًا لتجربة جديدة على قلمي حيث الكتابة في مطبوعة محسوبة على وزراه الثقافة، وتوكلت على الله وكتبت مقالة نشرت في الأسبوع نفسه، بعدها اتصل بي الأستاذ صلاح مرحبًا بي على صفحات "القاهرة" متمنيًا عليَّ أن أبتعد كلما أمكن عما أسماء "الحنجوري" الذي يتلبسني، مذكرًا بأن الجريدة ليست صحيفة معارضة، فتوقفت عن الكتابة بعد هذه اليتيمة التي نشرتها لي جريدته.
وما أفخر به في علاقتي بصلاح عيسى أنه ما من مرة كنتُ مسئولاً في مطبوعة إلا واستكتبت قلمه الجبار، وما زلت أحتفظ بقصاصة ورق رد فيها على طلبي منه بأن يرسل صورة حديثة له حين استكتبته في جريدة "البيان" الاماراتية مكتوب فيها بخطه المميز "مرفق الصورة المطلوبة وهي كما ترى خير عقوبة لك".
رحم الله الأستاذ الكبير صلاح عيسى، وعزاؤنا فيما تركه تراثًا من الكتابة التي لا تبلى على مر الأيام.